الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وهو أنواع :

أحدها

قلب الإسناد

وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره ، كقوله تعالى : ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ( القصص : 76 ) إن لم تجعل الباء للتعدية ؛ لأن ظاهره أن المفاتح تنوء بالعصبة ، ومعناه أن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها ، فأسند " لتنوء " إلى " المفاتح " ، والمراد إسناده إلى العصبة ؛ لأن الباء للحال ، والعصبة مستصحبة المفاتح ، لا تستصحبها المفاتح ، وفائدته المبالغة ، بجعل المفاتح كأنها مستتبعة للعصبة القوية بثقلها .

وقيل : لا قلب فيه ، والمراد - والله أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة أي : تميلها من ثقلها ، وقد ذكر هذا الفراء وغيره .

وقال ابن عصفور : والصحيح ما ذهب إليه الفارسي أنها بالنقل ولا قلب ، والفعل غير متعد فصار متعديا بالباء ؛ لأن " ناء " غير متعد ، يقال : ناء النجم ؛ أي : نهض ، ويقال : ناء أي : مال للسقوط ، فإذا نقلت الفعل بالباء قلت : نؤت به ، أي : أنهضته وأملته للسقوط ، فقوله : لتنوء بالعصبة ( القصص : 76 ) أي : تميلها المفاتح للسقوط لثقلها .

[ ص: 360 ] قال : وإنما كان مذهب الفارسي أصح ؛ لأن نقل الفعل غير المتعدي بالباء مقيس ، والقلب غير مقيس ، فحمل الآية على ما هو مقيس أولى .

ومنه قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل ( الأنبياء : 37 ) أي : خلق العجل من الإنسان ، قاله ثعلب وابن السكيت .

قال الزجاج : ويدل على ذلك قوله تعالى : وكان الإنسان عجولا ( الإسراء : 11 ) .

قال ابن جني : والأحسن أن يكون تقديره : خلق الإنسان من العجل ؛ لكثرة فعله إياه ، واعتماده له ، وهو أقوى في المعنى من القلب ؛ لأنه أمر قد اطرد واتسع ، فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويضعف المعنى .

ولما خفي هذا على بعضهم قال : إن العجل هاهنا الطين . قال : ولعمري إنه في اللغة كما ذكر ؛ غير أنه ليس هنا إلا نفس العجل ، ألا ترى إلى قوله قبله : سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( الأنبياء : 37 ) ونظيره قوله : وكان الإنسان عجولا ( الإسراء : 11 ) وخلق الإنسان ضعيفا النساء : 28 ) لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به الضرورة والحاجة .

وقيل في قوله : وجاءت سكرة الموت بالحق ( ق : 19 ) : إنه من المقلوب ، وأنه " وجاءت سكرة الحق بالموت " وهكذا في قراءة أبي بكر .

[ ص: 361 ] مثله : لكل أجل كتاب ( الرعد : 38 ) قال الفراء : أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل .

وقيل في قوله : وإن يردك بخير ( يونس : 107 ) : هو من المقلوب ، أي : يريد بك الخير ، ويقال : أراده بالخير وأراد به الخير .

وجعل ابن الضائع منه فتلقى آدم من ربه كلمات ( البقرة : 37 ) قال : فآدم صلوات الله على نبينا وعليه هو المتلقي للكلمات حقيقة ، ويقرب أن ينسب التلقي للكلمات ؛ لأن من تلقى شيئا أو طلب أن يتلقاه فلقيه كان الآخر أيضا قد طلب ذلك ؛ لأنه قد لقيه ، قال : ولقرب هذا المعنى قرئ بالقلب .

وجعل الفارسي منه قوله تعالى : فعميت عليكم ( هود : 28 ) أي : فعميتم عليها .

وقوله : فاختلط به نبات الأرض ( يونس : 24 ) .

وقوله : وقد بلغت من الكبر عتيا ( مريم : 8 ) وقد بلغني الكبر ( آل عمران : 40 ) أي : بلغت الكبر .

وقوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ( الجاثية : 23 ) وقوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( الشعراء : 77 ) فإن الأصنام لا تعادي ، وإنما المعنى : فإني عدو لهم ، [ ص: 362 ] مشتق من عدوت الشيء ، إذا جاوزته وخلفته ، وهذا لا يكون إلا فيمن له إرادة ، وأما " عاديته " فمفاعلة لا يكون إلا من اثنين .

وجعل منه بعضهم : وإنه لحب الخير لشديد ( العاديات : 8 ) أي : إن حبه للخير لشديد .

وقيل : ليس منه ؛ لأن المقصود منه أنه لحب المال لبخيل ، والشدة البخل ، أي : من أجل حبه للمال يبخل .

وجعل الزمخشري منه قوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ( الأحقاف : 20 ) كقولك : عرضت الناقة على الحوض ؛ لأن المعروض ليس له اختيار ، وإنما الاختيار للمعروض عليه ، فإنه قد يفعل ويريد ؛ وعلى هذا فلا قلب في الآية ؛ لأن الكفار مقهورون ، فكأنهم لا اختيار لهم ، والنار متصرفة فيهم ، وهو كالمتاع الذي يقرب منه من يعرض عليه ، كما قالوا : عرضت الجارية على البيع .

وقوله : وحرمنا عليه المراضع من قبل ( القصص : 12 ) ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على المكلف ، فالمعنى : وحرمنا على المراضع أن ترضعه ، ووجه تحريم إرضاعه عليهن ألا يقبل إرضاعهن حتى يرد إلى أمه .

وقوله تعالى : وما يخدعون إلا أنفسهم ( البقرة : 9 ) وقيل : الأصل وما تخدعهم إلا أنفسهم ؛ لأن الأنفس هي المخادعة والمسولة قال تعالى : بل سولت لكم أنفسكم ( يوسف : 18 ) .

ورد بأن الفاعل في مثل هذا هو المفعول في المعنى ، وأن التغاير في اللفظ فقط ، فعلى هذا يصح إسناد الفعل إلى كل منهما ؛ ولا حاجة إلى القلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية