الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1239 59 - حدثنا بشر بن الحكم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : اشتكى ابن لأبي طلحة قال : فمات وأبو طلحة خارج ، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت ، فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح ، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال : فبات فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما . قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة وهي أن امرأة أبي طلحة لما مات ابنها لم تظهر الحزن ، بل أظهرت الفرح والسرور حتى [ ص: 98 ] جامعها أبو طلحة في تلك الليلة ، فلما أصبح واغتسل ، وأراد الخروج من عندها أعلمته بذلك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم أربعة : الأول بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن الحكم بفتحتين العبدي مر في باب التهجد . الثاني سفيان بن عيينة . الثالث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك ، مات سنة أربع وثلاثين ومائة . الرابع أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع وبصيغة الجمع في موضع ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وفيه السماع ، وفيه القول في أربعة مواضع . قال أبو نعيم : هذا الحديث مما تفرد به البخاري عن بشر بن الحكم . وأخرجه مسلم من طرق عن ثابت ، عن أنس . وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من طريق أنس بن سيرين ومحمد بن سعد من طريق حميد الطويل كلاهما عن أنس . وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة ، وهو أخو إسحاق المذكور عن أنس رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " اشتكى ابن لأبي طلحة " أي : مرض وليس المراد أنه صدرت منه الشكوى ، لكن لما كان الأصل أن المريض يحصل منه ذلك استعمل في كل مرض لكل مريض ، والابن المذكور هو أبو عمير صاحب النغير قاله ابن حبان والخطيب في آخرين ، وأبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري ، وامرأته هي أم أنس بن مالك . قوله : " خارج " أي خارج البيت وكان يكون عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أواخر النهار ، وفي رواية الإسماعيلي كان لأبي طلحة ولد فتوفي فأرسلت أم سليم أنسا يدعو أبا طلحة وأمرته أن لا يخبره بوفاة ابنه وكان أبو طلحة صائما .

                                                                                                                                                                                  قوله : " هيأت شيئا " أي : أعدت طعاما وأصلحته ، وقيل : هيأت شيئا من حالها وتزينت لزوجها تعرضا للجماع ، وقيل : هيأت أمر الصبي بأن غسلته وكفنته على ما جاء في رواية أبي داود الطيالسي عن مشايخه عن صالح " فهيأت الصبي " وفي رواية حميد عند ابن سعد " فتوفي الغلام فهيأت أم سعيد أمره " وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت " فهلك الصبي فقامت أم سليم فغسلته وكفنته وحنطته وسجت عليه ثوبا " . قوله : " ونحته " بفتح النون والحاء المهملة المشددة أي : جعلته في جانب البيت ، وقيل : بعدته . وفي رواية جعفر عن ثابت " فجعلته في مخدعها " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قد هدأت نفسه " بالهمز أي : سكنت نفسه بسكون الفاء ، والمعنى أن نفسه كانت قلقة منزعجة بعارض المرض فسكنت بالموت ، وظن أبو طلحة أن مرادها سكنت بالنوم لوجود العافية ، وفي رواية أبي ذر " هدأ نفسه " بفتح الفاء أي : سكن لأن المريض يكون نفسه عاليا ، فإذا زال مرضه سكن وكذا إذا مات ، ووقع في رواية أنس بن سيرين " هو أسكن ما كان " ونحوه في رواية جعفر عن ثابت ، وفي رواية معمر عن ثابت " أمسى هادئا " وفي رواية حميد " بخير ما كان " والكل متقارب المعاني . قولها : " وأرجو أن يكون قد استراح " من حسن المعاريض وهو ما احتمل له معنيان ، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه ، ولكن ورت به عن المعنى الذي كان يحزنها ألا يرى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس ، وأوهمته أنه استراح من قلقه ، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال رحمه الله تعالى : هدأ نفسه من معاريض الكلام ، وأرادت بسكون النفس الموت ، وظن أبو طلحة رحمه الله تعالى أنها تريد به سكون نفسه من المرض وزوال العلة وتبدلها بالعافية ، وأنها صادقة فيما خيل إليه في ظاهر قولها وبارك الله لها بدعائه صلى الله عليه وسلم فرزقا تسعة أولاد من القراء الصلحاء ، وذلك بصبرهما فيما نالها ومراعاتها زوجها . قوله : " وظن أبو طلحة أنها صادقة " أي : بالنسبة إلى ما فهمه من كلامها وإلا فهي صادقة بالنسبة إلى ما أرادت . قوله : " فبات " أي بات أبو طلحة مع امرأته المذكورة وهذه كناية عن الجماع ، ولهذا لما أصبح اغتسل ; لأن الغسل غالبا لا يكون إلا من الجماع ، وقد وقع التصريح بذلك في رواية أنس بن سيرين " فقربت إليه العشاء فتعشى ثم أصاب منها " وفي رواية حماد ، عن ثابت " ثم تطيبت " زاد جعفر عن ثابت " فتعرضت له حتى وقع بها " وفي رواية سليمان عن ثابت " ثم تصنعت له أحسن ما كانت تتصنع قبل ذلك فوقع بها " .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية عبد الله بن عبد الله " ثم تعرضت له فأصاب منها " . قوله : " فلما أراد أن يخرج " أي : فلما أراد أبو طلحة أن يخرج من البيت أعلمته أي : أعلمت أبا طلحة بأنه أي : بأن الصبي قد مات ، وفيه زيادة لمسلم قال : حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ، حدثنا بهز ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، " عن [ ص: 99 ] أنس قال : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه قال : فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب قال : ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت : يا أبا طلحة أرأيت أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا قالت : احتسب ابنك قال : فغضب وقال : تركتيني ثم تلطخت ثم أخبرتيني بابني فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لكما في غابر ليلتكما قال : فحملت " الحديث بطوله .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية عبد الله " فقالت : يا أبا طلحة أرأيت قوما أعاروا متاعهم ثم بدا لهم فيه فأخذوه فكأنهم وجدوا في أنفسهم " زاد حماد في روايته عن ثابت " فأبوا أن يردوها فقال أبو طلحة : ليس لهم ذلك إن العارية مؤداة إلى أهلها ثم اتفقا فقالت : إن الله أعارنا فلانا ثم أخذه منا " زاد حماد " فاسترجع " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما " كذا هو في رواية الأصيلي ، وفي رواية غيره " يبارك لكما في ليلتكما " وفي رواية أنس بن سيرين " اللهم بارك لهما " والكل دعاء لا تعارض فيه ، وفي رواية أنس بن سيرين من الزيادة " فولدت غلاما " وفي رواية عبد الله بن عبد الله " فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قال سفيان " هو ابن عيينة المذكور في السند . قوله : " فقال رجل من الأنصار " هو عباية بن رفاعة ، وهو في رواية البيهقي في ( الدلائل ) وغيره من طريق سعيد بن مسروق ، عن عباية بن رفاعة قال : " كانت أم أنس تحب أبا طلحة " فذكر القصة شبيهة بسياق ثابت عن أنس ، وقال في آخره : " فولدت له غلاما قال عباية : فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم قد ختم القرآن " .

                                                                                                                                                                                  قال بعضهم : أفادت هذه الرواية أن في رواية سفيان تجوزا في قوله : لهما لأن ظاهره أنه من ولدهما بغير واسطة ، وإنما المراد من أولاد ولدهما المدعو له بالبركة وهو عبد الله بن أبي طلحة . قلت : لا نسلم التجوز في رواية سفيان لأنه ما صرح في قوله : قال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن ، ولم يقل : رأيت منهما أو لهما تسعة أولاد . وقوله صلى الله عليه وسلم : " يبارك لهما " لا يستلزم أن يكون التسعة منهما .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قد وقع في رواية عباية " سبع بنين " وفي رواية سفيان " تسعة أولاد " قلت : الظاهر أن المراد بالسبعة من ختم القرآن كله وبالتسعة من قرأ معظمه . فإن قلت : ذكر ابن سعد وغيره من أهل العلم بالأنساب أن له من الولد إسحاق وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وعمر والقاسم وعمارة وإبراهيم وعمير وزيد ومحمد ، وأربع من البنات . قلت : قول عباية : رأيت سبعة أو تسعة في رواية سفيان لا ينافي الزيادة ; لأنه ما أخبر إلا عمن رآه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه عدم إظهار الحزن عند المصيبة وهو فقه الباب كما فعلت أم سليم ، فإنها اختارت الصبر وقهرت نفسها ، وفيه منقبة عظيمة لأم سليم بصبرها ورضائها بقضاء الله تعالى ، وفيه جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة لمن قدر عليها وأن ذلك مما ينال به العبد رفيع الدرجات وجزيل الأجر ، وفيه أن المرأة تتزين لزوجها تعرضا للجماع ، وفيه أن من ترك شيئا لله تعالى وآثر ما ندب إليه وحض عليه من جميل الصبر أنه يعوض خيرا مما فاته ، ألا ترى قوله : " فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن " . وفيه مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها ، وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم ، وفيه إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية