الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب معرفة طريق الرؤية

                                                                                                                182 حدثني زهير بن حرب حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار وهو آخر أهل الجنة دخولا الجنة فيقول أي رب اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه ثم يقول الله تبارك وتعالى هل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غيره فيقول لا أسألك غيره ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب قدمني إلى باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب ويدعو الله حتى يقول له فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك فيعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي رب أدخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى له أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رب لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه فإذا ضحك الله منه قال ادخل الجنة فإذا دخلها قال الله له تمنه فيسأل ربه ويتمنى حتى إن الله ليذكره من كذا وكذا حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى ذلك لك ومثله معه قال عطاء بن يزيد وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يرد عليه من حديثه شيئا حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل ومثله معه قال أبو سعيد وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة وساق الحديث بمثل معنى حديث إبراهيم بن سعد

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تضارون في القمر ليلة البدر ؟ ) وفي الرواية الأخرى : ( هل تضامون ) ، وروى ( تضارون ) بتشديد الراء وبتخفيفها والتاء مضمومة فيهما ومعنى المشدد : هل تضارون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه كما تفعلون أول ليلة من الشهر ؟ ومعنى المخفف : هل يلحقكم في رؤيته ضير ؟ وهو الضرر وروي أيضا ( تضامون ) بتشديد الميم وتخفيفها ، فمن شددها فتح التاء ، ومن خففها ضم التاء ، ومعنى المشدد : هل تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته ؟ ومعنى المخفف : هل يلحقكم ضيم - وهو المشقة والتعب - ؟ قال القاضي عياض - رحمه الله - : وقال فيه بعض أهل اللغة تضارون أو تضامون بفتح التاء وتشديد الراء والميم ، وأشار القاضي بهذا إلى أن غير هذا القائل [ ص: 394 ] يقولهما بضم التاء سواء شدد أو خفف ، وكل هذا صحيح ظاهر المعنى ، وفي رواية للبخاري ( لا تضامون أو لا تضارون ) على الشك ومعناه : لا يشتبه عليكم وترتابون فيه فيعارض بعضكم بعضا في رؤيته . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنكم ترونه كذلك ) معناه : تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك والمشقة والاختلاف .

                                                                                                                قوله : ( الطواغيت ) هو جمع طاغوت ، قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة : الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى ، وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي وغيرهم : الطاغوت الشيطان ، وقيل : هو الأصنام ، قال الواحدي : الطاغوت يكون واحدا وجمعا ويؤنث ويذكر . قال الله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فهذا في الواحد ، وقال تعالى في الجمع : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم وقال في المؤنث : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها قال الواحدي ومثله من الأسماء الفلك يكون واحدا وجمعا ومذكرا أو مؤنثا قال النحويون : وزنه ( فعلوت ) والتاء زائدة ، وهو مشتق من طغى وتقديره طغووت ثم قلبت الواو ألفا . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ) قال العلماء : إنما بقوا في زمرة المؤمنين ، لأنهم كانوا في الدنيا متسترين بهم فيتسترون بهم أيضا في الآخرة وسلكوا مسلكهم ودخلوا في جملتهم وتبعوهم ومشوا في نورهم ، حتى ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، وذهب عنهم نور المؤمنين ، قال بعض العلماء : هؤلاء هم المطرودون عن الحوض الذين يقال لهم : سحقا سحقا . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ) اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين : أحدهما : وهو مذهب معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها ، بل يقولون : يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق ، وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين ، واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم . والقول الثاني : وهو مذهب معظم [ ص: 395 ] المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها ، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ، ذا رياضة في العلم ، فعلى هذا المذهب يقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيهم الله ) أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه ; لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان ، فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازا ، وقيل : الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا ، وقيل : المراد ( يأتيهم الله ) أي : يأتيهم بعض ملائكة الله ، قال القاضي عياض - رحمه الله - : هذا الوجه أشبه عندي بالحديث ، قال : ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق ، قال : أو يكون معناه : يأتيهم الله في صورة ، أي : يأتيهم بصورة ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم ، وهذا آخر امتحان المؤمنين ، فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة : ( أنا ربكم ) رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم ، ويستعيذون بالله منه .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ) فالمراد بالصورة هنا الصفة ، ومعناه : فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها ، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئا من مخلوقاته ، وقد علموا أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته ، فيعلمون أنه ربهم فيقولون : أنت ربنا ، وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة .

                                                                                                                وأما قولهم : ( نعوذ بالله منك ) فقال الخطابي : يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة من المنافقين خاصة ، وأنكر القاضي عياض هذا وقال : لا يصح أن تكون من قول المنافقين ولا يستقيم الكلام به ، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب ، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه وإنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق .

                                                                                                                وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيتبعونه ) فمعناه يتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ويضرب الصراط بين ظهري جهنم ) هو بفتح الظاء وسكون الهاء ومعناه : يمد الصراط عليها ، وفي هذا إثبات الصراط ، ومذهب أهل الحق إثباته ، وقد أجمع السلف على إثباته . وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم ، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم أي : منازلهم ، والآخرون يسقطون فيها ، أعاذنا الله الكريم منها ، وأصحابنا المتكلمون وغيرهم من السلف يقولون : إن [ ص: 396 ] الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف كما ذكره أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - هنا في روايته الأخرى المذكورة في الكتاب . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ) هو بضم الياء وكسر الجيم والزاي آخره ومعناه : يكون أول من يمضي عليه ويقطعه يقال : أجزت الوادي وجزته لغتان بمعنى واحد ، وقال الأصمعي : أجزته قطعته ، وجزته مشيت فيه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ) معناه لشدة الأهوال والمراد لا يتكلم في حال الإجازة ، وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها ، وتجادل كل نفس عن نفسها ، ويسأل بعضهم بعضا ويتلاومون ، ويخاصم التابعون المتبوعين . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ) هذا من كمال شفقتهم ورحمتهم للخلق وفيه أن الدعوات تكون بحسب المواطن فيدعى في كل موطن بما يليق به . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان ) أما ( الكلاليب ) فجمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة ، وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق فيها اللحم وترسل في التنور ، قال صاحب المطالع : هي خشبة في رأسها عقافة حديد ، وقد تكون حديدا كلها ويقال لها أيضا : كلاب . وأما السعدان فبفتح السين وإسكان العين المهملة وهو نبت له شوكة عظيمة مثل الحسك من كل الجوانب .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تخطف الناس بأعمالهم ) هو بفتح الطاء ويجوز كسرها ، يقال : خطف وخطف بكسر الطاء وفتحها والكسر أفصح ، ويجوز أن يكون معناه : تخطفهم بسبب أعمالهم ، ويجوز أن يكون معناه : تخطفهم على قدر أعمالهم . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى ) أما الأول : فذكر القاضي عياض - رحمه الله - أنه روي على ثلاثة أوجه : أحدها : ( المؤمن يقي بعمله ) بالميم والنون وبقي بالياء والقاف ، والثاني : الموثق بالمثلثة والقاف ، والثالث : الموبق يعني : بعمله فالموبق بالباء الموحدة والقاف ويعنى : بفتح الياء المثناة وبعدها العين ثم النون قال القاضي هذا أصحها ، وكذا قال صاحب المطالع : هذا الثالث هو الصواب ، قال وفي ( يقي ) على الوجه الأول ضبطان : أحدهما : بالباء الموحدة ، والثاني : بالياء المثناة من تحت من الوقاية ، قلت : والموجود في معظم الأصول ببلادنا هو الوجه الأول وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ومنهم المجازى ) فضبطناه بالجيم والزاي من المجازاة وهكذا هو في أصول بلادنا في هذا الموضع ، وذكر القاضي [ ص: 397 ] عياض - رحمه الله - في ضبطه خلافا فقال : رواه العذري وغيره ( المجازى ) كما ذكرناه ، ورواه بعضهم ( المخردل ) بالخاء المعجمة والدال واللام ، ورواه بعضهم في البخاري ( المجردل ) بالجيم . فأما الذي بالخاء فمعناه : المقطع أي : بالكلاليب يقال : خردلت اللحم أي قطعته ، وقيل : خردلت بمعنى صرعت ، ويقال بالذال المعجمة أيضا ، والجردلة بالجيم : الإشراف على الهلاك والسقوط .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ) ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة التي يسجد الإنسان عليها وهي : الجبهة واليدان والركبتان والقدمان ، وهكذا قاله بعض العلماء ، وأنكره القاضي عياض - رحمه الله - وقال : المراد بأثر السجود الجبهة خاصة . والمختار الأول ، فإن قيل قد ذكر مسلم بعد هذا مرفوعا أن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات الوجوه ، فالجواب : أن هؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار بأنه لا يسلم منهم من النار إلا دارات الوجوه ، وأما غيرهم فيسلم جميع أعضاء السجود منهم عملا بعموم هذا الحديث ، فهذا الحديث عام وذلك خاص فيعمل بالعام إلا ما خص . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فيخرجون من النار قد امتحشوا ) هو بالحاء المهملة والشين المعجمة وهو بفتح التاء والحاء هكذا هو في الروايات ، وكذا نقله القاضي عياض - رحمه الله - عن متقني شيوخهم ، قال : وهو وجه الكلام وبه ضبطه الخطابي والهروي ، وقالوا في معناه احترقوا . قال القاضي : ورواه بعض شيوخنا بضم التاء وكسر الحاء . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ) هكذا هو في الأصول ( فينبتون منه ) بالميم والنون ، وهو صحيح ومعناه : ينبتون بسببه . وأما ( الحبة ) فبكسر الحاء وهي بزر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول وجمعها ( حبب ) بكسر الحاء المهملة وفتح الباء . وأما ( حميل السيل ) فبفتح الحاء وكسر الميم ، وهو ما جاء به السيل من طين أو غثاء ومعناه : محمول السيل ، والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته .

                                                                                                                قوله : ( قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها ) أما ( قشبني ) فبقاف مفتوحة ثم شين معجمة مخففة مفتوحة ومعناه : سمني وآذاني وأهلكني ، كذا قاله الجماهير من أهل اللغة والغريب ، وقال الداودي معناه : غير جلدي وصورتي . وأما ( ذكاؤها ) فكذا وقع في جميع روايات الحديث ( وذكاؤها ) بالمد وهو بفتح الذال المعجمة ومعناه : لهبها واشتعالها وشدة وهجها ، والأشهر في اللغة ذكاها مقصور ، وذكر جماعات أن المد والقصر لغتان يقال : ذكت النار تذكو ذكا إذا اشتعلت ، وأذكيتها أنا . والله أعلم .

                                                                                                                [ ص: 398 ] قوله عز وجل : ( هل عسيت ) هو بفتح التاء على الخطاب ، ويقال : بفتح السين وكسرها لغتان وقرئ بهما في السبع ، قرأ نافع بالكسر والباقون بالفتح وهو الأفصح الأشهر في اللغة ، قال ابن السكيت : ولا ينطق في عسيت بمستقبل .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير ) أما ( الخير ) فبالخاء المعجمة والياء المثناة تحت ، هذا هو الصحيح المعروف في الروايات والأصول ، وحكى القاضي عياض - رحمه الله - : أن بعض الرواة في مسلم رواه ( الحبر ) بفتح الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة ومعناه السرور ، قال صاحب المطالع : كلاهما صحيح قال : والثاني أظهر ، ورواه البخاري : ( الحبرة والسرور ) والحبرة : المسرة . وأما ( انفهقت ) فبفتح الفاء والهاء والقاف ومعناه انفتحت واتسعت .

                                                                                                                قوله : ( فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه ) قال العلماء : ضحك الله تعالى منه هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه وإيجابها عليه . والله أعلم .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - ( فيسأل ربه ويتمنى حتى إن الله تعالى ليذكره من كذا وكذا ) معناه يقول له تمن من [ ص: 399 ] الشيء الفلاني ، ومن الشيء الآخر يسمي له أجناس ما يتمنى ، وهذا من عظيم رحمته سبحانه وتعالى .

                                                                                                                قوله في رواية أبي هريرة : ( لك ذلك ومثله معه ) وفي رواية أبي سعيد ( وعشرة أمثاله ) ، قال العلماء : وجه الجمع بينهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم أولا بما في حديث أبي هريرة ثم تكرم الله تعالى فزاد ما في رواية أبي سعيد فأخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعه أبو هريرة .




                                                                                                                الخدمات العلمية