الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 332 ] فصل فيما يتغير بعمل الغاصب قال ( وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها ، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها ، كمن غصب شاة وذبحها وشواها أو طبخها [ ص: 333 ] أو حنطة فطحنها أو حديدا فاتخذه سيفا أو صفرا فعمله آنية ) وهذا كله عندنا .

وقال الشافعي رحمه الله : لا ينقطع حق المالك وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله ، غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده ; لأنه يؤدي إلى الربا ، وعند الشافعي يضمنه ، وعن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه لكنه يباع في دينه وهو أحق به من الغرماء بعد موته . للشافعي أن العين باق فيبقى على ملكه [ ص: 334 ] وتتبعه الصنعة كما إذا هبت الريح في الحنطة وألقتها في طاحونة فطحنت . ولا معتبر بفعله ; لأنه محظور فلا يصلح سببا للملك على ما عرف ، فصار كما إذا انعدم الفعل أصلا وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها .

ولنا أنه أحدث صنعة متقومة صير حق المالك هالكا من وجه ، ألا ترى أنه تبدل الاسم وفات معظم المقاصد وحقه في الصنعة قائم من كل وجه فيترجح على الأصل الذي هو فائت من وجه ، ولا نجعله سببا للملك من حيث إنه محظور ، بل من حيث إنه إحداث الصنعة ، [ ص: 335 ] بخلاف الشاة ; لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ ، وهذا الوجه يشمل الفصول المذكورة ويتفرع عليه غيرها فاحفظه . وقوله ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها استحسان ، والقياس أن يكون له ذلك وهو قول الحسن وزفر ، وهكذا عن أبي حنيفة رحمه الله ، رواه الفقيه أبو الليث . ووجهه ثبوت الملك المطلق للتصرف ; ألا ترى أنه لو وهبه أو باعه جاز . وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام { في الشاة المذبوحة المصلية بغير رضا صاحبها أطعموها الأسارى } أفاد الأمر بالتصدق زوال ملك المالك وحرمة الانتفاع للغاصب قبل الإرضاء ، [ ص: 336 ] ولأن في إباحة الانتفاع فتح باب الغصب فيحرم قبل الإرضاء حسما لمادة الفساد ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك كما في الملك الفاسد . وإذا أدى البدل يباح له ; لأن حق المالك صار موفى بالبدل فحصلت مبادلة بالتراضي ، وكذلك إذا أبرأه لسقوط حقه به ، وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضا منه ; لأنه لا يقضي إلا بطلبه ، وعلى هذا الخلاف إذا غصب حنطة فزرعها أو نواة فغرسها غير أنه عند أبي يوسف يباح الانتفاع فيهما قبل أداء الضمان لوجود الاستهلاك من كل وجه ، بخلاف ما تقدم لقيام العين فيه من وجه . وفي الحنطة يزرعها لا يتصدق بالفضل عنده خلافا لهما ، وأصله ما تقدم . .

التالي السابق


( فصل فيما يتغير بعمل الغاصب )

قال في العناية : لما فرغ من بيان حقيقة الغصب وحكمه من وجوب رد العين أو المثل أو القيمة أعقبه بذكر ما يزول به ملك المالك ; لأنه عارض وحقه الفصل عما قبله ا هـ .

أقول : فيه كلام . أما أولا فلأن ما يزول به ملك المالك وإن كان عارضا لأصل الغصب إلا أن رد المثل أو القيمة متفرع على تحقق هذا العارض ، فإن موجب أصل الغصب إنما هو رد العين ، ولا يصار إلى رد المثل أو القيمة إلا بعد هلاك العين كما تقرر فيما مر ، فلم يكن رد المثل أو القيمة إلا بعد هلاك العين حكم الغصب إلا بعد حدوث ذلك العارض ، فكان بالتأخير أحرى منه .

وأما ثانيا فلأن كون ما يزول به ملك المالك عارضا إنما يقتضي استحقاقه للتأخير لا لفصله عما قبله بأن يورد في فصل على حدة فلم يتم قوله وحقه الفصل عما قبله ، وكأن صاحب الغاية تداركه حيث قال : لأنه عارض فناسب أن يذكر بعد ذلك ، لكن لا يتم به تمام التقريب إذ المقصود بيان وجه ذكر ما يتعلق بذلك العارض من المسائل في فصل على حدة لا بيان وجه مجرد ذكره متأخرا عما قبله ( قوله وإذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها وملكها الغاصب وضمنها ، ولا يحل له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها ) قال في العناية : قوله بفعل الغاصب احتراز عما إذا تغير بغير فعله ، مثل أن صار العنب زبيبا بنفسه أو خلا [ ص: 333 ] أو الرطب تمرا ، فإن المالك فيه بالخيار ، إن شاء أخذه ، وإن شاء تركه وضمنه . وقوله حتى زال اسمها احتراز عما إذا غصب شاة فذبحها فإنه لم يزل بالذبح ملك مالكها ; لأنه لم يزل اسمها . يقال شاة مذبوحة وشاة حية .

وقوله وعظم منافعها يتناول الحنطة إذا غصبها وطحنها ، فإن المقاصد المتعلقة بعين الحنطة كجعلها هريسة وكشكا ونشاء وبدرا وغيرها تزول بالطحن ، والظاهر أنه تأكيد ; لأن قوله زال اسمها يتناوله ، فإنها إذا طحنت صارت تسمى دقيقا لا حنطة . إلى هنا لفظ العناية .

أقول : فيه نظر ، فإن كون قيد وعظم منافعها في هذه المسألة مذكور لمجرد التأكيد مع وقوعه في عبارات عامة المعتبرات من المطولات والمختصرات على الاطراد بعيد جدا لا تقبله الطباع السليمة ، فالحمل عليه من ضيق العطن . والصواب أنه احتراز عما إذا غصب شاة فذبحها وأربها ، فإنه لا يزول بالذبح والتأريب ملك مالكها كما سيأتي في الكتاب ، مع أنه زال اسمها بعد التأريب ولكن لم يزل عظم منافعها وهو اللحمية كما سيأتي التصريح به في عامة الشروح حتى العناية نفسها ولهذا لم يزل ملك مالكها عنها تدبر ( قوله غير أنه إذا اختار أخذ الدقيق لا يضمنه النقصان عنده ) قال بعض الفضلاء : الظاهر أن المراد نقصان القيمة .

أقول : ظهوره ممنوع ، كيف وقد قال عامة الشراح في بيان قول المصنف فيما سيأتي : ولنا أنه أحدث صنعة متقومة ; لأن قيمة الحنطة تزداد بجعلها دقيقا ، وكذا قيمة الشاة تزداد بطبخها ، فإذا ازداد قيمة الحنطة بجعلها دقيقا فأنى يتصور هناك نقصان القيمة ، بل الظاهر أن المراد نقصان الوصف كما إذا عفنت ، وقد أفصح عنه صاحب النهاية حيث قال : لأن الدقيق عين الحنطة من وجه فكان له أن يأخذه كما قبل الطحن . ثم قال : والدليل على بقاء جنس الحنطة فيه جريان الربا بينهما ، ولا يجري الربا إلا باعتبار المجانسة . وقال : فلما ثبتت المجانسة بين الحنطة ودقيقها كان أخذ الدقيق بمنزلة أخذ عين الحنطة ، ولو أخذ عين الحنطة كان لا يجوز أن يأخذ معها شيئا آخر لنقصان صفتها بسبب العفونة لأدائه إلى الربا على ما مر فكذلك هاهنا ا هـ . اللهم إلا أن يكون مراد ذلك القائل أيضا بنقصان القيمة نقصانها بسبب فوات الوصف لا نقصانها بمجرد الطحن من غير نقصان الوصف ، لكن الظاهر في مثله إضافة النقصان إلى الوصف لا إلى القيمة كما لا يخفى .

( قوله للشافعي أن العين باق إلخ ) قال صاحب العناية : قوله [ ص: 334 ] وللشافعي عطف على قوله ; لأنه يؤدي إلى الربا . أقول : ليس هذا بسديد ، فإن الواو غير موجودة هاهنا في نسخ الهداية الصحيحة أصلا ، ولو سلم وجودها فالظاهر أنها للابتداء ، إذ لو كانت للعطف على قوله ; لأنه يؤدي إلى الربا لزم الفصل بين المعطوفين بكلام أجنبي وهو قوله وعند الشافعي يضمنه ، وقوله وعن أبي يوسف أنه يزول ملكه عنه إلخ .

ولا يخفى على من له دربة بأساليب الكلام ركاكة ذلك جدا وكونه بمعزل عن شأن صاحب الهداية . ورد عليه بعض الفضلاء بوجه آخر حيث قال : فيلزم أن يكون تعليلا لعدم جواز ضمانه النقصان عند أبي يوسف هذا خلف ا هـ .

أقول : ليس هذا بشيء ; لأن معنى قوله للشافعي أن العين باق أن له في إثبات مذهبه كذا ، وهذا هو المعنى أيضا على تقدير أن يكون وللشافعي عطفا على قوله ; لأنه يؤدي إلى الربا ، إلا أن له في إثبات مذهب أبي يوسف كذا حتى يلزم أن يكون تعليلا لعدم جواز ضمان النقصان عند أبي يوسف ، كيف ولو لزم ما توهمه من المحذور هاهنا للزم ذلك في كل موضع الخلاف يقال فيه عند إقامة أدلة المذاهب له كذا وله كذا ولنا كذا ، إذ لا شك أن المذكور ثانيا أو ثالثا من تلك الأدلة بالواو معطوف على الأول ، مع أن مدعى كل واحد منها يخالف الآخر ، ومن جملة ذلك قوله فيما نحن فيه .

ولنا أنه أحدث صنعة متقومة فإنه معطوف قطعا على قوله للشافعي أن العين باق مع أنه ليس بتعليل لما علله الشافعي بلا ريب . فالوجه في صحة العطف في أمثال ذلك كلها أن المعنى أنه له في إثبات مذهبه كذا ولنا [ ص: 335 ] في إثبات مذهبنا كذا ، ولا محذور فيه أصلا فاحفظ هذا فإنه ينفعك في مواضع شتى ( قوله بخلاف الشاة ; لأن اسمها باق بعد الذبح والسلخ ) هذا جواب عن قول الشافعي وصار كما إذا ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وأربها ، وتقريره أن العلة حدوث الفعل من الغاصب وعلى وجه يتبدل الاسم ، واسم الشاة بعد الذبح باق ; لأنه يقال شاة مذبوحة مسلوخة كما يقال شاة حية . فإن قيل : الكلام فيها بعد التأريب ، ولا يقال شاة مأروبة بل يقال لحم مأروب فقد حصل الفعل وتبدل الاسم ولم ينقطع حق المالك . أجيب بأنه كذلك ، إلا أنه لما ذبحها فقد أبقى اسم الشاة فيها مع ترجيح جانب اللحمية فيها إذ معظم المقصود منها اللحم ثم السلخ والتأريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل يحققه فلا يكون دليل تبدل العين ، كذا في العناية وغيرها . أقول : الجواب المذكور لا يدفع السؤال الوارد على المصنف فيما ذكره جوابا عما استشهد به الشافعي من مسألة ذبح الشاة المغصوبة وسلخها وتأريبها ، فإنه علل المخالفة بينها وبين ما نحن فيه ببقاء اسم الشاة فيها بعد الذبح والسلخ فورد عليه قطعا أن يقال : الكلام في الشاة التي ذبحت ثم أربت ، ولا شك أن اسم الشاة لم يبق بعد التأريب فلم تتحقق المخالفة بينها وبين ما نحن فيه من حيث تبدل الاسم وعدم تبدله ، فلم يصلح ما ذكره المصنف جوابا عما استشهد به الشافعي . نعم يمكن أن يجاب عما استشهد به الشافعي بما قرر في الجواب المذكور ، لكنه لا يدفع قصور ما أجاب به المصنف عنه ، ومدار السؤال المزبور على ذلك فلا يتم التقريب [ ص: 336 ]

( قوله وكذا إذا أدى بالقضاء أو ضمنه الحاكم أو ضمنه المالك لوجود الرضا منه ; لأنه لا يقضي إلا بطلبه ) في المعنى المراد من قوله أو ضمنه الحاكم ومن قوله أو ضمنه المالك نوع اشتباه ، وعن هذا اختلفت عبارات الشراح في تفسيرهما ، فقال صاحب الكفاية في شرح قوله أو ضمنه الحاكم : يحتمل أن يكون المغصوب منه من كان القاضي وليا له ، أو أن يكون المراد منه قضى بالضمان بدليل قوله ; لأنه لا يقضي إلا بطلبه ا هـ .

واختار تاج الشريعة الاحتمال الأول حيث قال في بيان قوله أو ضمنه الحاكم بأن كان المغصوب مال اليتيم أو الغائب ، وكذا اختاره صاحب العناية حيث قال في تفسير ذلك : يعني إذا كان مال اليتيم . أقول : يرد على الاحتمال الأول أن قول المصنف في التعليل ; لأنه لا يقضي إلا بطلبه غير مساعد لذلك ; لأن من كان القاضي وليا له لا يلزم منه الطلب في قضاء القاضي له بحقه ، بل قد لا يتصور منه الطلب كما إذا كان اليتيم صغيرا جدا وكما إذا كان الغائب بعيدا غير عالم بالقضية أصلا . ويرد على الاحتمال الثاني أن قول المصنف قبل هذا وكذا إذا أدى بالقضاء يأبى ذلك ، إذ حينئذ يلزم التكرار . ويمكن أن يجاب عن الأول بأن طلب القاضي في حكم طلب من كان القاضي وليا له لكونه نائبا منابه ، فكان القضاء هناك أيضا بطلب المغصوب منه حكما . وعن الثاني بأنه يجوز أن يكون المراد بالقضاء على تقدير أن يكون معنى قوله ضمنه الحاكم قضى بالضمان مجرد القضاء بالضمان بدون وقوع أداء البدل من الغاصب ، والمراد بقوله قبيل ذلك ، وكذا إذا أدى بالقضاء أداء البدل بالقضاء فافترقا ولا تكرار . ثم قال صاحب الكفاية : ومعنى قوله أو ضمنه المالك أخذ الضمان أو تراضيا على مقدار من الضمان ا هـ . أقول : يرد عليه أيضا أن قول المصنف فيما قبل وإذا أدى البدل يباح : يعني عن هذا المعنى ; لأن أداء الغاصب البدل يستلزم أخذ المغصوب منه الضمان فيلزم أن يكون قوله أو ضمنه المالك مستدركا . ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز أن يكون المراد بتضمين المالك أخذه الضمان بغير رضا الغاصب وبغير القضاء دون مطلق أخذ الضمان ، والمراد بقوله فيما قبل وإذا أدى البدل أداؤه برضاه دون مطلق الأداء وإلا يلزم استدراك قوله وكذا إذا أدى بالقضاء ، وأداؤه برضاه إنما يستلزم أخذ الضمان برضاه دون أخذه بغير رضاه فلا استدراك .

بقي الكلام في قول صاحب الكفاية أو تراضيا على مقدار من الضمان فإنه يقتضي الاستدراك ، إذ التراضي قد كان معتبرا في قول المصنف وإذا أدى البدل يباح كما يدل عليه تعليله هناك بقوله ; لأن حق المالك صار موفى بالبدل فحصلت مبادلة بالتراضي . ويمكن أن يجاب عنه أيضا بأن المراد هاهنا التراضي على مقدار من الضمان : أي على بعض منه ، والمراد فيما تقدم التراضي على أداء كل الضمان فحصل التغاير من هذه الحيثية [ ص: 337 ] واندفع الاستدراك ، لكن لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن حمل قول المصنف أو ضمنه المالك على التراضي على مقدار من الضمان مما لا يساعده اللفظ جدا ، ولا يفهم منه ذلك المعنى من حيث العربية أصلا . وقال تاج الشريعة في تفسير قوله أو ضمنه المالك : أي طلب المالك من الغاصب الضمان بحل الانتفاع قبل أداء الضمان ا هـ ، واقتفى أثره الشارح العيني . أقول : فيه أيضا بعد من حيث اللفظ والمعنى كما لا يخفى فتأمل




الخدمات العلمية