الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثالثة : " إن " للتأكيد و " ما " حرف زائد للتأكيد ، ولا فائدة لهما مجتمعين إلا الحصر ; لأنه تأكيد ثان ، وهذا حكاه السكاكي عن علي بن عيسى واستلطفه . وحكاه ابن بابشاذ في شرح الجمل " عن المحققين من أصحابه ، وليس بشيء ; لأن النفي عن غيره ليس تأكيدا لثبوته لاختلاف المعنيين . ويرده اجتماع " إن " و " ما " النافيتين ولا يفيد إلا النفي ، وكذلك يجتمع المؤكدان ولا يفيد إلا التأكيد وأولى ; لأن النفي قد ينفى وأيضا فإنك تقول : قام القوم كلهم أجمعون وليس بحصر ونقول : والله إن زيدا ليقومن فقد حصل التأكيد أربع مرات ، ولم يقل أحد باقتضائه الحصر .

                                                      قال القاضي العضد : وهو الذي قاله الربعي من باب إيهام العكس ، فإنه لما رأى أن القصر تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما كان تأكيدا على تأكيد كان حصرا ، وأيضا يلزم تخصيص كونه للحصر بما وقع في جواب الرد لكنه للحصر في جميع المواضع . الرابعة : للإمام في المعالم " واعتمده ابن دقيق العيد : أن أهل اللسان فهموا ذلك فإن ابن عباس فهم الحصر من قوله عليه السلام : { إنما الربا في النسيئة } وخالفه الصحابة بدليل يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يخالف في فهمه الحصر ، فكان إجماعا . انتهى ، وهو حسن إلا أن فيه نظرا من وجهين : أحدهما : أنه قد ثبت في الصحيح عن ابن عباس رواية : { لا ربا إلا في النسيئة } فلعله فهم الحصر من هذه الصيغة لا من إنما ولو أنه ذكر [ ص: 245 ] أن الصحابة فهمته من قوله { إنما الماء من الماء } لكان أقرب .

                                                      ثانيهما : أن المخالف لا يلزمه أن يذكر جميع أوجه الاعتراض بل قد يكتفي بأحدها إذا كان قويا ظاهرا ، وحينئذ فلا يلزم من استنادهم إلى الدليل السمعي واقتصارهم عليه تسليم كونها للحصر . الخامسة : اختيار السكاكي وهو أقربها : أنا وجدنا العرب عاملتها في الكلام معاملة إلا المسبوقة بالنفي ، وهي مفيدة للحصر بالاتفاق ، فإنهم يقولون : قمت ولم يقم زيد ، ولا يقولون : قام أنا ، ولم يقم زيد ، فإذا أدخلوها قالوا : إنما قام أنا ولم يقم زيد ، كما يقولون : ما قام إلا أنا ، فأجروا الضمير مع إنما مجرى المضمر مع إلا وتلك تفيد الحصر كقوله : ما قطر الفارس إلا أنا . الثالث : القائلون بالحصر قال محققوهم : هي حاصرة أبدا لكن يختلف حصرها فقد يكون حقيقيا ، كقوله تعالى : { إنما الله إله واحد } وقد يكون مجازيا على المبالغة ، نحو إنما الشجاع عنترة ، وحمل عليه ابن عطية قوله : { إنما يفتري الكذب } وقوله : { إنما أنا بشر مثلكم } محمول على معنى التواضع والإخبات أي : ما أنا إلا عبد متواضع . ومنهم من يقول : تارة يكون مطلقا ، نحو { إنما الله إله واحد } وتارة يكون مخصوصا بقرينة ، نحو { إنما أنت [ ص: 246 ] منذر } فإنه لا ينحصر في النذارة { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } وليست منحصرة في ذلك ; لأنها مزرعة للآخرة وإنما الحصر بالنسبة ، فقوله : إنما أنت منذر بالنسبة إلى خطاب الكفار لنفي كونه قادرا على إنزال ما اقترحوه من الآيات كقوله : { ما على الرسول إلا البلاغ } وقوله : { إنما الحياة الدنيا لعب } أي : بالنسبة لمن آثرها ولم يعمل فيها للآخرة . وقال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام " : كلمة " إنما " للحصر ، والحصر فيها على وجهين : أحدهما : أن لا يكون فيما دخلت عليه تخصيص ولا تقييد { إنما الله إله واحد } { إنما إلهكم الله } { إنما وليكم الله ورسوله } .

                                                      والثاني : أن يقع فيما دخلت عليه إما في جانب الإثبات بأن يكون هو المقصود أو في جانب النفي بأن يكون هو المقصود ، والقرائن ترشد إلى المراد ، وهو في العمد الكبرى في فهمه ، نحو { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } { إنما أنا بشر مثلكم } { إنما أنت منذر } فإن جميع هذه الأوصاف التي دخلت عليها " إنما " ليست للعموم بل تختص كونها لعبا ولهوا بمن لا يريد بعمله فيها الآخرة والتزود بها ، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في البشرية والنذارة بل له أوصاف أخرى جليلة زائدة على البشرية والنذارة ، لكن فهم منه أنه ليس على صفة تقتضي العلم بالغيب ، أو أنها في قوله صلى الله عليه وسلم : { إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إلي } ، وفي { إنما أنا بشر [ ص: 247 ] مثلكم } في الآية الكريمة يفهم من أنه ليس قادرا على خلق الإيمان قهرا لسبق قوله تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم } أي : والله أعلم لا أقدر على إجباركم على الإيمان . وكذلك أمر النذارة لا ينحصر فيها { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } إذا عرفت هذا فإن دلت القرائن والسياق على التخصيص فاحمله على العموم فيما دخلت عليه " إنما " على هذا حمل ابن عباس ( إنما الربا ) على العموم حتى نفى ربا الفضل ، وقيل : إنه رجع عنه ، وحمل غيره { إنما الماء من الماء } على ذلك ولم يوجب الغسل بالتقاء الختانين ، ومن خالف في الأمرين فبدليل خارجي .

                                                      الرابع : زعم النحويون أن الأخير هو المحصور ، فإذا قلت : إنما زيد قائم ، فالقائم هو المحصور ، وإذا قلت : إنما المال لك ، فالمحصور أنت أي : لا غيرك ، وإذا قلت : إنما لك المال ، فالمحصور المال أي : لا غيره ، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } لا يحسن الاحتجاج به على مشروعية النية في كل عمل ; إذ المحصور النية لا العمل ، ولكن إجماع الأئمة على خلافه . وأجمع النحاة على أنه متى أريد الحصر في واحد من الفاعل والمفعول مع " إنما " يجب تأخيره وتقديم الآخر ، فتقول : إنما ضرب عمرو هندا إذا أردت الحصر في المفعول ، وإنما ضرب هندا عمرو إذا أردت الحصر في الفاعل . واختلفوا فيه إذا كان مع " ما " و " إلا " على ثلاثة مذاهب : فذهب قوم منهم الجزولي والشلوبين إلى أنه كذلك في " إنما " إن أريد [ ص: 248 ] الحصر فيه وجب تأخيره ك " إلا " وتقديم غير المحصور . وذهب الكسائي إلى أنه يجوز فيه من التقديم والتأخير ما جاز في كل واحد منهما إذا لم يكن معه " ما " وإلا . وذهب البصريون والفراء وابن الأنباري إلى أنه إن كان الفاعل هو المقرون بإلا وجب تقديم المفعول ، وإن كان المفعول هو المقرون بإلا لم يجب تقديم الفاعل على المفعول ، بل يجوز تقديم الفاعل على المفعول وتأخيره . وحكاه عنه الشيخ بهاء الدين بن النحاس في التعليقة " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية