الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      التفسير :

                                                                                                                                                                                                                                      تقدم القول في {كهيعص} .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر رحمت ربك عبده زكريا أي : هذا الذي يتلى عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا ؛ والمعنى ذكر ربك عبده زكريا رحمة منه ، ففيه تقديم وتأخير ؛ [ ص: 239 ] لما كان سبب ذكر زكريا الرحمة من الله تعالى ؛ أضيف الذكر إلى الرحمة ؛ لأنه من أجلها كان .

                                                                                                                                                                                                                                      الفراء : {ذكر} : مرفوع بـ {كهيعص} .

                                                                                                                                                                                                                                      الأخفش : التقدير : وفيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ : {ذكر رحمة ربك} ؛ ففاعل {ذكر} ضمير ما تقدم ؛ كأنه قال : هذا القرآن يذكر رحمة ربك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إذ نادى ربه نداء خفيا : قيل : أخفى دعاءه كراهية الرياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وتقدم القول في (الوهن ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : واشتعل الرأس شيبا : هذا من أحسن الاستعارة في كلام العرب ، و (الاشتعال ) : انتشار شعاع النار ، شبه به انتشار الشيب في الرأس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ولم أكن بدعائك رب شقيا أي : لم أكن إذ دعوتك مخيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وإني خفت الموالي من ورائي يعني : العصبة ، عن مجاهد والسدي ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة : يعني : بني العم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 240 ] وقيل : إنما خاف أن تنقطع النبوة من نسله ، وتصير في عصبة في غير ولد يعقوب ، وزكريا من ولد يعقوب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى من ورائي : من قدامي ، وقيل : من بعد موتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب أي : يكون نبيا كما كانوا أنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : يرث مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : المعنى : يرث علمه ، وكان زكريا من آل يعقوب .

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : يرث نبوته ، ويرث نبوة آل يعقوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : يا زكريا إنا نبشرك بغلام أي : فنودي : يا زكريا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لم نجعل له من قبل سميا : قال ابن عباس : لم تلد العواقر مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : لم نجعل له مثلا ، وقيل : لم يسم أحد قبله باسمه ، عن قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وقد بلغت من الكبر عتيا يعني : النهاية في الكبر ، واليبس ، والجفاف ، ومثله : العسي .

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : كان قد بلغ بضعا وسبعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 241 ] قال كذلك قال ربك أي : الأمر كما قيل لك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي : لم تك شيئا موجودا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي : وأنت مع ذلك سوي ، وقيل : المعنى : ثلاث ليال متتابعات ؛ فيكون {سويا} من نعت (الليالي ) ، وهو على القول الأول من نعت المخاطب ، وتقديره التقديم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا أي : أومأ إليهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      الضحاك : كتب لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى {سبحوا} : صلوا ، عن قتادة ، والحسن ، وقيل ، أمرهم بالتسبيح طرفي النهار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : يا يحيى : [أي : قلنا له : يا يحيى ] .

                                                                                                                                                                                                                                      خذ الكتاب بقوة أي : بجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وآتيناه الحكم صبيا أي : الفهم لكتاب الله تعالى ، قاله أكثر المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال معمر : قال الصبيان ليحيى : تعال حتى نلعب ؛ فقال : ما للعب خلقنا ، فذلك قوله : وآتيناه الحكم صبيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وحنانا من لدنا : قال ابن عباس وغيره ، المعنى : ورحمة من عندنا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 242 ] الضحاك : أي نعمة من عندنا ، لا يملك أحد إعطاءها غيرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن زيد ، وعكرمة : المعنى : ومحبة من عندنا ، مجاهد ، وتعطفا ، عطاء ، وتعظيما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : آتيناه رحمة بالعباد ، وتحننا عليهم ؛ ليخلصهم من الكفر إلى الإيمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأصل (الحنان ) في اللغة : الرحمة ؛ من (حنين الناقة على ولدها ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : {وزكاة} : قال قتادة ، والضحاك ، وغيرهما : أي : وعملا صالحا زكيا .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن : المعنى : وزكاة لمن قبل عنه حتى يكونوا أزكياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : (الزكاة ) : الصدقة .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : طهر فلم يعمل بذنب ، فهو الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وسلام عليه يوم ولد أي : أمان من الشيطان حين ولد ، فلم يذنب في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم يموت} يعني : فتاني القبر .

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم يبعث حيا يعني : الفزع الأكبر ، وعذاب الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا معنى {انتبذت} : تنحت ، وتباعدت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 243 ] مكانا شرقيا أي : موضعا من جهة المشرق ، وقيل : إنها اعتزلت فيه ؛ لتغتسل من الحيض ، وقيل : لتخلو بالعبادة ، وقيل : إنما اعتزلت في شرقي المحراب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : {فاتخذت من دونهم حجابا : قال : ابن عباس : أي حجابا من الشمس ، أظلها الله بها ، وجعل لها منها حجابا يسترها من الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : حجابا من الجدران .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فأرسلنا إليها روحنا يعني : جبريل عليه السلام ، عن الحسن ، وقتادة ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو عيسى عليه السلام ، بعث إلى مريم ، فدخل فيها ؛ فيكون معنى فتمثل لها : فتمثل فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا : هذا يدل على أنه تمثل بها شخصا تراه ؛ والمعنى : إن كنت تقيا ؛ فستتعظ بتعويذي بالله منك ؛ فـ {إن} - على هذا - للشرط ، وقيل : هي نفي بمعنى : (ما ) ؛ والمعنى : ما كنت تقيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهب بن منبه : تعني بقولها : إن كنت تقيا : إنسانا كان معروفا بالشر عندهم ، اسمه : (تقي ) ؛ فـ {إن} : للشرط .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 244 ] وقوله : لأهب لك غلاما زكيا : من قرأ : لأهب لك ؛ [فالمعنى : لأهب لك ] بأمر الله ، ومن قرأ : {لأهب لك} ؛ فالمعنى : ليهب لك ربك ، ويجوز أن يكون {لأهب} مخففا من {لأهب} .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى (زكي ) : تام على الخير والبركة ، وقيل (الزكي ) : الطاهر من الذنوب .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم أك بغيا أي : زانية ؛ والمعنى : طالبة للزنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال وهب : نفخ جبريل في جيب درعها ، فوصلت النفخة إلى الرحم .

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : نفخ في جيب درعها ، فدخلت النفخة صدرها .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن جبير : نفخ في جيب درعها وفي رحمها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى {هو علي هين : سهل بغير مشقة ولا كلفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فانتبذت به مكانا قصيا : أي : بعيدا ، يروى : أنه بيت لحم أقصى الوادي ، ويروى : أنها ذهبت لما حملت إلى أدنى أرض مصر ، وأقصى أرض الشام ؛ فرارا من أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة أي : جاء بها : وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهما ، ألجأها ، و {المخاض} : الحمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قالت يا ليتني مت قبل هذا أي : قالت ذلك في حال الطلق ؛ استحياء من الناس ، عن السدي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 245 ] وقوله : وكنت نسيا منسيا : (النسي ) : الشيء المتروك حتى ينسى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الشيء الحقير الذي لا يعبأ به .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد ، وعكرمة : يعني : حيضة ملقاة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عباس : حملت به وولدته في ساعة ، وقال مجاهد : حملت به ستة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وذلك آية له ؛ لأنه لا يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش ، وكذلك لا يولد أيضا لستة أشهر فيعيش .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : قوله : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة : دليل على طول مكثه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فناداها من تحتها ألا تحزني : قال ابن عباس وغيره : ناداها جبريل ، وقال مجاهد ، والحسن ، وغيرهما : ناداها عيسى ؛ فإن كان جبريل ؛ فالمعنى : من مكان تحت المكان الذي هي فيه ، وإن كان عيسى ؛ فالمعنى : من تحت ثيابها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قد جعل ربك تحتك سريا : قال : البراء بن عازب : (السري ) : الجدول ، الضحاك وقتادة : النهر الصغير ، والقولان سواء ، وسمي النهر الصغير {سريا} ؛ لأنه يسري بجريانه ؛ ولذلك قيل له أيضا : (جدول ) ؛ لشدة جريه .

                                                                                                                                                                                                                                      مجاهد : (السري ) : النهر بالسريانية ، وقيل : بالنبطية .

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن ، وابن زيد : (السري ) : عيسى عليه السلام ؛ والمعنى : قد جعل ربك تحتك شخصا سريا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 246 ] وقوله : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا : (الباء ) في {بجذع النخلة : زائدة ، و (الجني ) : ما أخذ من الثمرة الطرية ، وروي : أنه كان جذعا يابسا بغير رأس ، وكان شتاء ، فأنبت الله تعالى له رأسا ، وجعل فيه رطبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وقري عينا أي : لتبرد عينك برد سرور ؛ أي : لم تسخن بخروج الدمع ، يقال في لغة قريش : (قررت به عينا ، أقر قرورا ) ، و (قررت بالمكان ، أقر قرارا ) ، وأهل نجد يقولون : (قررت ) في العين والمكان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : فقولي إني نذرت للرحمن صوما} أي : صمتا ، عن ابن عباس ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة : صوما عن الطعام ، والشراب ، والكلام .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن مسعود : إنما أمرت بذلك ؛ لينطق ولدها بما يبرئ به ساحتها .

                                                                                                                                                                                                                                      السدي : كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى : فقولي إني نذرت للرحمن صوما : أشيري إليهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لقد جئت شيئا فريا أي : عظيما ، عن مجاهد ، وقتادة ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      سعيد بن مسعدة : مختلقا مفتعلا .

                                                                                                                                                                                                                                      أبو عبيدة : عجيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المعنى : بديعا ، لم تسبقي إليه ، قاله قطرب ، وقال : زعم أبو حيوة أن (الفري ) : الجديد من الأسقية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 247 ] يا أخت هارون : قال السدي : هو هارون أخو موسى عليه السلام ، نسبت إليه ؛ لأنها من ولده ، [كما يقال : (يا أخا بني تميم ) ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو رجل صالح من بني إسرائيل ، شبهت به في صلاحه ، عن قتادة ، وابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      ابن جبير : كان هارون رجلا فاسقا ، فنسبوها إليه قبل أن يعرفوا براءتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المفسرين : كان لها أخ صالح يسمى هارون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : {وما كانت أمك بغيا أي : فاجرة .

                                                                                                                                                                                                                                      فأشارت إليه أي : أشارت إلى عيسى أن كلموه ، فقالوا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا : دخلت {كان} زائدة مؤكدة ، وقيل : هي بمعنى : (وقع ) ، و (خلق ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : في الكلام معنى الشرط ؛ والمعنى : من كان في المهد صبيا ؛ فكيف نكلمه ؟ و {المهد} : يراد به : حجر مريم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : قال إني عبد الله آتاني الكتاب أي : قضى أن يؤتينيه ، وكذلك معنى قوله : وجعلني نبيا وجعلني مباركا ، وما عطف عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى {مباركا} : ثابتا على ديني ؛ من قولهم : (برك البعير ) ؛ إذا ثبت في الأرض ، وقيل : يعني : ما أتاهم به من البركات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وأوصاني بالصلاة والزكاة أي : بالصلاة والطهارة ، وقيل : يعني [ ص: 248 ] به : زكاة المال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق أي : ذلك الذي قال هذا عيسى ابن مريم .

                                                                                                                                                                                                                                      و {يمترون} معناه : يشكون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية