الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                1757 وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن مالك بن أوس حدثه قال أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار قال فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله متكئا على وسادة من أدم فقال لي يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم قال قلت لو أمرت بهذا غيري قال خذه يا مال قال فجاء يرفا فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد فقال عمر نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاء فقال هل لك في عباس وعلي قال نعم فأذن لهما فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم فقال مالك بن أوس يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاللا نورث ما تركنا صدقة قالوا نعم ثم أقبل على العباس وعلي فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة قالا نعم فقال عمر إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره قال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا قال فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا المال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم يجعل ما بقي أسوة المال ثم قال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك قالوا نعم ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم أتعلمان ذلك قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نورث ما تركناه صدقة فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما ادفعها إلينا فقلت إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذتماها بذلك قال أكذلك قالا نعم قال ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي حدثنا إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد قال ابن رافع حدثنا وقال الآخران أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال إنه قد حضر أهل أبيات من قومك بنحو حديث مالك غير أن فيه فكان ينفق على أهله منه سنة وربما قال معمر يحبس قوت أهله منه سنة ثم يجعل ما بقي منه مجعل مال الله عز وجل

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( فجئته حين تعالى النهار ) أي : ارتفع ، وهو بمعنى ( متع النهار ) بفتح المثناة فوق كما وقع في رواية البخاري .

                                                                                                                قوله : ( فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله ) هو بضم الراء وكسرها ، وهو ما ينسج من سعف النخل ونحوه ليضطجع عليه ، وقوله : ( مفضيا إلى رماله ) يعني : ليس بينه وبين رماله شيء ، وإنما قال هذا لأن العادة أن يكون فوق الرمال فراش أو غيره .

                                                                                                                قوله : ( فقال لي يا مال ) هكذا هو في جميع النسخ ( يا مال ) وهو ترخيم ( مالك ) بحذف الكاف ، ويجوز كسر اللام وضمها ، وجهان مشهوران لأهل العربية ، فمن كسرها تركها على ما كانت ، ومن ضمها جعله اسما مستقلا .

                                                                                                                قوله : ( دف أهل أبيات من قومك ) الدف : المشي بسرعة كأنهم جاءوا مسرعين للضر الذي نزل بهم ، وقيل : السير اليسير .

                                                                                                                قوله : ( وقد أمرت فيهم برضخ ) هو بإسكان الضاد وبالخاء المعجمتين ، وهي العطية القليلة .

                                                                                                                قوله : ( فجاء يرفا ) هو بفتح المثناة تحت وإسكان الراء وبالفاء غير مهموز هكذا ذكره الجمهور ، ومنهم من همزه وفي سنن البيهقي في باب الفيء تسميه ( اليرفا ) بالألف واللام ، وهو حاجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه

                                                                                                                قوله : ( اقض بيني وبين هذا الكاذب ) إلى آخره ، قال جماعة من العلماء : معناه : هذا الكاذب إن لم ينصف ، فحذف الجواب ، وقال القاضي عياض : قال المازري : هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس ، وحاش لعلي أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف فضلا عن كلها ، ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن شهد له بها ، لكنا مأمورون بحسن الظن بالصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - ونفي كل رذيلة عنهم ، وإذا انسدت طرق تأويلها نسبنا الكذب إلى رواتها ، قال : وقد حمل هذا المعنى بعض الناس على أن أزال هذا اللفظ من نسخته تورعا عن [ ص: 425 ] إثبات مثل هذا ، ولعله حمل الوهم على رواته ، قال المازري : وإذا كان هذا اللفظ لا بد من إثباته ، ولم نضف الوهم إلى رواته فأجود ما حمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه ; لأنه بمنزلة ابنه ، وقال ما لا يعتقده وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه ، ولعله قصد بذلك ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه ، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصد ، وأن عليا كان لا يراه إلا موجبة لذلك في اعتقاده ، وهذا كما يقول المالكي : شارب النبيذ ناقص الدين ، والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص ، فكل واحد محق في اعتقاده ، ولا بد من هذا التأويل لأن هذه القضية جرت في مجلس فيه عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة ، وعثمان وسعد وزبير وعبد الرحمن - رضي الله عنهم - ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر ، وما ذلك إلا لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر ، قال المازري : وكذلك قول عمر - رضي الله عنه - : إنكما جئتما أبا بكر فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، وكذلك ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك ، وتأويل هذا على نحو ما سبق وهو أن المراد أنكما تعتقدان أن الواجب أن نفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر ، فنحن على مقتضى رأيكما لو أتينا ما أتينا ونحن معتقدان ما تعتقدانه لكنا بهذه الأوصاف ، أو يكون معناه : أن الإمام إنما يخالف إذا كان على هذه الأوصاف ويتهم في قضاياه فكان مخالفتكما لنا تشعر من رآها أنكم تعتقدان ذلك فينا . والله أعلم .

                                                                                                                قال المازري : وأما الاعتذار عن علي والعباس - رضي الله عنهما - في أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله صلى الله عليه وسلم : لا نورث ما تركناه فهو صدقة وتقرير عمر - رضي الله عنه - أنهما يعلمان ذلك ، فأمثل ما فيه ما قاله بعض العلماء أنهما طلبا أن يقسماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما يفعل الإمام بها لو وليها بنفسه ، فكره عمر أن يوقع عليها اسم القسمة ، لئلا يظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث ، وأنهما ورثاه ، لا سيما وقسمة الميراث بين البنت والعم نصفان ، فيلتبس ذلك ، ويظن أنهم تملكوا ذلك ، ومما يؤيد ما قلناه ما قاله أبو داود : أنه لما صارت الخلافة إلى علي - رضي الله عنه - لم يغيرها عن كونها صدقة ، وبنحو هذا احتج السفاح ، فإنه لما خطب أول خطبة قام بها قام إليه رجل معلق في عنقه المصحف فقال : أنشدك الله إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف ، فقال : من هو خصمك ؟ قال : أبو بكر في منعه فدك ، قال : أظلمك ؟ قال : نعم ، قال : فمن بعده ؟ قال : عمر : قال : أظلمك ؟ قال : نعم ، وقال في عثمان كذلك ، قال : فعلي ظلمك ؟ فسكت الرجل ، فأغلظ له السفاح ، قال القاضي عياض : وقد تأول قوم طلب فاطمة - رضي الله عنها - ميراثها من أبيها على أنها تأولت الحديث إن كان بلغها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا نورث " على الأموال التي لها بال فهي التي لا تورث لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح ، وهذا التأويل خلاف ما ذهب إليه أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي ) فليس معناه إرثهن منه بل لكونهن محبوسات عن الأزواج بسببه ، أو لعظم حقهن في بيت المال لفضلهن ، وقدم هجرتهن ، وكونهن أمهات المؤمنين ، وكذلك اختصصن بمساكنهن لم يرثها ورثتهن ، قال القاضي عياض : وفي ترك فاطمة منازعة [ ص: 426 ] أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية أنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها ، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث ، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر - رضي الله عنهم - فدل على أن طلب علي والعباس إنما كان طلب تولي القيام بها بأنفسهما ، وقسمتها بينهما ، كما سبق ، قال : وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر - رضي الله عنه - فمعناه : انقباضها عن لقائه ، وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء .

                                                                                                                قوله في هذا الحديث : ( فلم تكلمه ) يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ، ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ، ولم ينقل التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته ، قال : وأما قول عمر جئتماني تكلماني وكلمتكما في واحدة ، جئت يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها . فيه إشكال مع إعلام أبي بكر لهم قبل هذا الحديث ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا نورث ) وجوابه أن كل واحد إنما طلب القيام وحده على ذلك ، ويحتج هذا بقربه بالعمومة ، وذلك بقرب امرأته بالبنوة ، وليس المراد أنهما طلبا ما علما منع النبي صلى الله عليه وسلم ومنعهما منه أبو بكر ، وبين لهما دليل المنع ، واعترفا له بذلك .

                                                                                                                قال العلماء : وفي هذا الحديث أنه ينبغي أن يولى أمر كل قبيلة سيدهم ، وتفوض إليه مصلحتهم ، لأنه أعرف بها وأرفق بهم ، وأبعد من أن يأنفوا من الانقياد له ، ولهذا قال الله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وفيه جواز نداء الرجل باسمه من غير كنيته .

                                                                                                                وفيه جواز احتجاب المتولي في وقت الحاجة لطعامه أو وضوئه أو نحو ذلك .

                                                                                                                وفيه جواز قبول خبر الواحد .

                                                                                                                وفيه استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين العدول لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( فقال - رضي الله عنه - اتئدا ) أي : اصبرا وأمهلا .

                                                                                                                [ ص: 427 ] قوله : ( أنشدكم بالله ) أي : أسألكم بالله ، مأخوذ من النشيد . وهو رفع الصوت ، يقال : أنشدتك ونشدتك بالله .




                                                                                                                الخدمات العلمية