الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وإن خرج من المسجد بظن الحدث أو جن أو احتلم أو أغمي عليه استقبل ) أما فسادها بالخروج من المسجد لتوهم الحدث ولم يكن موجودا فلوجود المنافي من غير عذر والقياس فسادها بالانحراف عن القبلة مطلقا لما ذكرنا لكن استحسنوا بقاءها عند عدم الخروج ; لأنه انصرف على قصد الإصلاح ; لأنه لو تحقق ما توهمه بنى على صلاته فألحق قصد الإصلاح بحقيقته ما لم يختلف المكان بالخروج ، وقد فهم بعضهم من هذا كما ذكره في التجنيس أن المصلي إذا حول صدره عن القبلة لا تفسد صلاته وأن القول بفسادها أليق بقولهما وليس بشيء ; لأن أبا حنيفة إنما قال بعدم فساد صلاته عند عدم الخروج لأجل أنه معذور بتوهم الحدث ، وأما من حول صدره عن القبلة فهو متمرد عاص لا يستحق التخفيف فالقول بالفساد أليق بقول الكل كما لا يخفى ، قيد بظن الحدث ; لأنه لو ظن أنه افتتح على غير وضوء أو كان ماسحا على الخفين فظن أن مدة مسحه قد انقضت أو كان متيمما فرأى سرابا فظنه ماء أو كان في الظهر فظن أنه لم يصل الفجر أو رأى حمرة في ثوبه فظن أنها نجاسة فانصرف حيث تفسد صلاته ، وإن لم يخرج من المسجد ; لأن الانصراف على سبيل الرفض ، ولهذا لو تحقق ما توهمه يستقبل وهذا هو الأصل والاستخلاف كالخروج من المسجد ; لأنه عمل كثير فيبطلها وإنما عبر بالظن دون التوهم ; لأنه الطرف الراجح والوهم هو الطرف المرجوح وصور مسألة الظن الشمني بأن خرج شيء من أنفه فظن أنه رعف فظاهره أنه لو لم يكن للظن دليل بأن شك في خروج [ ص: 395 ] ريح ونحوه فإنه يستقبل مطلقا بالانحراف عملا بما هو القياس لكني لم أره منقولا وإنما في التجنيس لو شك الإمام في الصلاة فاستخلف فسدت صلاتهم

                                                                                        ولو خاف سبق الحدث فانصرف ، ثم سبقه الحدث فالاستئناف لازم عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف كذا في المجمع ، والدار ومصلى الجنازة والجبانة كالمسجد إذ له حكم البقعة الواحدة كذا قالوا إلا في المرأة فإنها إن خرجت عن مصلاها فسدت صلاتها وليس البيت لها كالمسجد للرجل ، وقال القاضي الإمام أبو علي النسفي لا تفسد صلاتها والبيت لها كالمسجد للرجل كذا في فتاوى قاضي خان ، وإن كان يصلي في الصحراء فمقدار الصفوف له حكم المسجد إن مشى يمنة أو يسرة أو خلفا ، وإن مشى أمامه وليس بين يديه سترة فالصحيح هو التقدير بموضع السجود ، وإن كان وحده فمسجده موضع سجوده من الجوانب الأربع إلا إذا مشى أمامه وبين يديه سترة فيعطى لداخلها حكم المسجد كذا في البدائع ، وفي فتح القدير والأوجه إذا لم يكن سترة أن يعتبر موضع سجوده ; لأن الإمام منفرد في حق نفسه والمنفرد حكمه ذلك ا هـ .

                                                                                        وهذا البحث هو ما صححه في البدائع فعلم أن ما في الهداية من أن الإمام إذا لم يكن بين يديه سترة فمقدار الصفوف خلفه ضعيف

                                                                                        وأما فسادها بما ذكر من الجنون والإغماء والاحتلام فلأنه يندر وجود هذه العوارض فلم تكن في معنى ما ورد به النص من القيء والرعاف ، وكذلك إذا قهقه ; لأنه بمنزلة الكلام وهو قاطع لقوله عليه الصلاة والسلام { وليبن على صلاته ما لم يتكلم } ، وكذا لو نظر إلى امرأة فأنزل . ومحل الفساد بهذه الأشياء قبل القعود قدر التشهد أما بعده فلا لما سنذكره من أن تعمد الحدث بعده لا يفسدها فهذا أولى ، ولا يخلو الموصوف بها عن اضطراب أو مكث وكيفما كان فالصنع منه موجود على القول باشتراطه للخروج ، أما في الاضطراب فظاهر ، وأما في المكث فلأنه يصير به مؤديا جزءا من الصلاة مع الحدث والأداء صنع منه ، وفي العناية وإنما قال أو نام فاحتلم ; لأن النوم بانفراده ليس بمفسد ، وكذا الاحتلام المنفرد عن النوم وهو البلوغ بالسن فجمع بينهما بيانا للمراد ا هـ .

                                                                                        فعلى هذا الاحتلام هو البلوغ أعم من الإنزال أو السن فالمراد في المختصر هو الأول ، وفي الظهيرية المصلي إذا نعس في صلاته فاضطجع قيل تنتقض طهارته فيتوضأ ويبني وقيل لا تفسد صلاته ولا تنتقض طهارته ا هـ .

                                                                                        ولعل المصنف إنما عبر بالاستقبال في هذه المسائل كغيره دون الفساد لما أن الفساد فيها ليس مقصودا فيثاب على ما فعله منها بخلاف ما إذا أفسدها قصدا فإنه لا ثواب له فيما أداه بل يأثم ; لأن قطعها لغير ضرورة حرام ( قوله ، وإن سبقه حدث بعد التشهد توضأ وسلم ) ; لأن التسليم واجب ولا بد له من الوضوء ليأتي به فالوضوء والسلام واجبان فلو لم يفعل كره تحريما .

                                                                                        والشروط التي [ ص: 396 ] قدمناها لصحة البناء لا بد منها للسلام حتى لو لم يتوضأ فورا أو أتى بمناف بعده فاته السلام ووجب عليه إعادتها لإقامة الواجب ; لأنه حكم كل صلاة أديت مع كراهة التحريم ، وإن كان إماما استخلف من يسلم بالقوم .

                                                                                        ( قوله وإن تعمده أو تكلم تمت صلاته ) أي تعمد الحدث لحديث الترمذي عن ابن عمر قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحدث يعني الرجل ، وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته } ومعنى قوله تمت صلاته تمت فرائضها ، ولهذا لم تفسد بفعل المنافي وإلا فمعلوم أنها لم تتم بسائر ما ينسب إليها من الواجبات لعدم خروجه بلفظ السلام وهو واجب بالاتفاق حتى أن هذه الصلاة تكون مؤداة على وجه مكروه فتعاد على وجه غير مكروه كما هو الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة كذا في شرح منية المصلي ، وفيه أنه لا خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه في أن من سبقه الحدث بعده يتوضأ ويسلم وإنما الخلاف فيما إذا لم يتوضأ حتى أتى بمناف فعند أبي حنيفة بطلت صلاته لعدم الخروج بصنعه وعندهما لا تبطل ; لأنه ليس بفرض عندهما ا هـ .

                                                                                        وفيه نظر بل لا يكاد يصح ; لأنه إذا أتى بمناف بعد سبق الحدث فقد خرج منها بصنعه ، ولهذا قال الشارح الزيلعي ، وكذا إذا سبقه الحدث بعد التشهد ، ثم أحدث متعمدا قبل أن يتوضأ تمت صلاته ولم يحك خلافا وإنما ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا خرج منها لا بصنعه كالمسائل الاثني عشرية كما سنقرره إن شاء الله تعالى .

                                                                                        وشمل تعمد الحدث القهقهة عمدا فصلاته تامة وبطل وضوءه لوجودها في أثناء الصلاة فصار كنية الإقامة في هذه الحالة ، وكذا لو قهقه في سجود السهو ، وإن قهقه الإمام أو أحدث متعمدا ثم قهقه القوم فعليه الوضوء دونهم لخروجهم منها بحدث الإمام بخلاف قهقهتهم بعد سلامه ; لأنهم لا يخرجون منها بسلامة فبطلت طهارتهم ، وإن قهقهوا معا أو القوم ثم الإمام فعليهم الوضوء .

                                                                                        والحاصل أن القوم يخرجون من الصلاة بحدث الإمام عمدا اتفاقا ، ولهذا لا يسلمون ولا يخرجون منها بسلامه عندهما خلافا لمحمد ، وأما بكلامه فعن أبي حنيفة روايتان في رواية كالسلام فيسلمون وتنتقض طهارتهم بالقهقهة ، وفي رواية كالحدث العمد فلا سلام ولا نقض بها كذا في المحيط .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله والاستخلاف كالخروج من المسجد إلخ ) قال في العناية وإن كان قد استخلف فتبين أنه لم يحدث فسدت صلاته وإن لم يخرج من المسجد لوجود العمل الكثير من غير عذر ، بخلاف ما إذا تحقق ما توهمه فإن العمل غير مفسد لقيام العذر فكان الاستخلاف كالخروج من المسجد يحتاج لصحته على قصد الإصلاح وقيام العذر ا هـ .

                                                                                        ( قوله فظاهره أنه لو لم يكن للظن دليل إلخ ) فيه بحث فإن مقتضاه جريان ذلك في التوهم بالأولى مع أنه صرح في المحيط بخلافه ولفظه إمام توهم أنه رعف فاستخلف الغير فقبل أن يخرج الإمام من المسجد ظهر أنه كان ماء ولم يكن دما قال الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل إن كان الخليفة أدى ركنا من الصلاة لم يجز للإمام أن يأخذ الإمامة مرة ثانية ولكنه يقتدي بالخليفة وإن لم يكن أدى ركنا لكنه قام في المحراب قال أبو حنيفة وأبو يوسف له أن يأخذ الإمامة ، وقال محمد لا يجوز ا هـ .

                                                                                        ومثله في الذخيرة وفي الظهيرية قال محمد تفسد صلاته ا هـ والحاصل أن ما بحثه لا يساعده هذا المنقول المفهوم منه صورة [ ص: 395 ] الشك بالأولى مع تعبير الهداية وغيرها عن الظن ثانيا بالتوهم ، وأما ما في التجنيس فليس صريحا في المدعي لاحتمال إرادة ظاهره وهو الشك في ذاتها ليكون استخلافه ناشئا عن الرفض فلا يصح فليتأمل .

                                                                                        كذا في شرح الشيخ إسماعيل أقول : ما نقله عن المحيط هو ظن لا توهم بدليل قوله ظهر أنه كان ماء ولم يكن دما فالتوهم في عبارة المحيط بمعنى الظن المبني على دليل فهو مساو لما ذكره المؤلف عن الشمني ( قوله فعلم أن ما في الهداية إلخ ) قال الرملي أقول : أغلب الكتب على ما في الهداية حتى قال في التتارخانية نقلا عن المحيط وإن تقدم إمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة ، فإن تقدم مقدار ما لو تأخر جاوز الصفوف فسدت صلاته ، وإن كان أقل من ذلك لا تفسد وصلى ما بقي وإن كان بين يديه حائط أو سترة ، فإن جاوزها بطلت صلاته وذكر هشام عن محمد أنه قال لا تفسد صلاته حتى يتقدم مثل ما لو تأخر خرج عن الصفوف وجاوز أصحابه وإن كان بين يديه سترة ا هـ فكيف يكون ما في الهداية ضعيفا وأغلب الكتب على اعتماده فراجع الكتب يظهر لك ذلك .

                                                                                        ( قوله وإنما قال ) أي القدوري في البداية التي هي متن الهداية ( قوله ; لأن النوم بانفراده ليس بمفسد ) قال الرملي ذكر في التتارخانية أقوالا واختلاف تصحيح في المسألة ، وكذلك ذكر في الجوهرة في نوم المضطجع والمريض في الصلاة اختلافا والصحيح أنه ينقض وبه نأخذ ونقل في التتارخانية عن المحيط في النوم مضطجعا الحال لا يخلو إن غلبت عيناه فنام ثم اضطجع في حالة نومه فهو بمنزلة ما لو سبقه الحدث يتوضأ ويبني ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعا فإنه يتوضأ ويستقبل الصلاة هكذا حكي عن مشايخنا ا هـ

                                                                                        فراجع المنقول ولا تغتر بما أطلقه هنا . ا هـ . ( قوله فعلى هذا الاحتلام هو البلوغ ) قال في النهر فيه نظر لقول أهل اللغة الاحتلام اسم لما يراه النائم ثم غلب على ما يراه من خاص وأيضا لو كان نفس البلوغ لكان قول القدوري وغيره بلوغ الصبي بالاحتلام والإحبال والإنزال وإلا فحتى يتم له ثماني عشرة سنة غير واقع في محله وكأن الداعي إلى هذا التكلف ذكر النوم معه ولا يكون تصريحا بما علم التزاما زيادة في الإيضاح ولا سيما والكتاب ألفه لولده ا هـ .

                                                                                        قال الشيخ إسماعيل نعم ما ذكره في العناية أشار إلى نحوه في المغرب بقوله [ ص: 396 ] والحالم المحتلم في الأصل ثم عم فقيل لمن بلغ مبلغ الرجال حالم وهو المراد به في الحديث خذ من كل حالم .




                                                                                        الخدمات العلمية