الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الكفار كانوا جنسين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفارا بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم : " عزير ابن الله " و " المسيح ابن الله " وتحريفهم كتاب الله ودينه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب ، فذكر الله تعالى الجنسين بقوله : ( الذين كفروا ) على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفصيل ، وهو قوله : ( من أهل الكتاب والمشركين ) وههنا سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 39 ] السؤال الأول : تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، وهذا حق ، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، ومعلوم أن هذا ليس بحق .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : كلمة "من" ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) [الحج : 30] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، بعضهم من أهل الكتاب وبعضهم من المشركين ، فإدخال كلمة من لهذا السبب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون قوله : ( والمشركين ) أيضا وصفا لأهل الكتاب ، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة ، وهذا كله شرك ، وقد يقول القائل : جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوما بأعيانهم يصفهم بالأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال تعالى : ( الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ) [التوبة : 112] وهذا وصف لطائفة واحدة ، وفي القرآن من هذا الباب كثير ، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى ، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفا لموصوف واحد .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب ؟ قلنا : ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام : " سنوليهم سنة أهل الكتاب " وأنكره الآخرون قال : لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب ، وهم اليهود والنصارى ، قال تعالى حكاية عنهم : ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) [الأنعام : 156] والطائفتان هم اليهود والنصارى .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين ؟ حيث قال : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) ؟ الجواب : أن الواو لا تفيد الترتيب ، ومع هذا ففيه فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم ، فكان إصرارهم على الكفر أقبح .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلا لكفر غيرهم ، فلهذا قدموا في الذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : لم قال من أهل الكتاب ، ولم يقل من اليهود والنصارى ؟ الجواب : لأن قوله : ( من أهل الكتاب ) يدل على كونهم علماء ، وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم ، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى ، أو لأن كونه عالما يقتضي مزيد قبح في كفره ، فذكروا بهذا الوصف تنبيها على تلك الزيادة من العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية