الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - وإن توحش أهلي أو ند بعير أو تردى في بئر فلم يقدر على ذكاته في حلقه فذكاته حيث يصاب من بدنه لما روى { رافع بن خديج قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة وقد أصاب القوم غنما وإبلا فند منها بعير فرمي بسهم فحبسه الله به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا } وقال ابن عباس رضي الله عنه : " ما أعجزك من البهائم فهو بمنزلة الصيد " ولأنه يتعذر ذكاته في الحلق فصار كالصيد ، وإن تأنس الصيد فذكاته ذكاة الأهلي . كما أن الأهلي إذا توحش فذكاته ذكاة الوحشي " .

                                      [ ص: 141 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 141 ] الشرح ) حديث رافع رواه البخاري ومسلم .

                                      والأثر المذكور عن ابن عباس صحيح رواه البيهقي بإسناده ، وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، فهو صحيح عنده ( وقوله ) ند هو بفتح النون وتشديد الدال أي هرب ، والأوابد بفتح الهمزة وبالباء الموحدة وهي النفور والتوحش جمع آبدة بالمد وكسر الباء ويقال : أبدت بفتح الباء والتخفيف يأبد ويأبد بكسر الباء وضمها وتأبدت أي توحشت ونفرت من الإنس . ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان : مقدور على ذبحه ومتوحش فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة كما سبق ، وهذا مجمع عليه ، وسواء في هذا الإنسي والوحشي إذا قدر على ذبحه ، بأن أمسك الصيد ، أو كان متوحشا فلا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة لما ذكره المصنف ، وأما المتوحش كالصيد فجميع أجزائه مذبح ، ما دام متوحشا ، فإذا رماه بسهم ، أو أرسل عليه جارحة فأصاب شيئا من بدنه ومات به ، حل بالإجماع . ولو توحش إنسي بأن ند بعير أو بقرة أو فرس ، أو شردت شاة أو غيرها ، فهو كالصيد يحل بالرمي إلى غير مذبحه ، وبإرسال الكلب من الجوارح عليه ، وهذا بلا خلاف عندنا ، لما ذكره المصنف ، ولو تردى بعير أو غيره في بئر ولم يمكن قطع حلقومه فهو كالبعير الناد في حله بالرمي بلا خلاف ، وفي حله بإرسال الكلب وجهان حكاهما الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم ( أصحهما ) عندهم ، في الحاوي والبحر والمستظهري التحريم ( واختار ) البصريون الحل ، والأول أرجح ، والله تعالى أعلم . قال أصحابنا : وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات بل متى تيسر اللحوق بعدو أو استعانة بمن يمسكه ، فليس ذلك توحشا ولا يحل حينئذ إلا بالذبح في المذبح قال الرافعي : ولو تحقق العجز في الحال فقد [ ص: 142 ] أطلق الأصحاب أن البعير ونحوه كالصيد ، لأنه قد يريد الذبح في الحال . فتكليفه الصبر إلى القدرة يشق عليه . قال إمام الحرمين : والظاهر عندي أنه لا يلحق بالصيد بذلك لأنها حالة عارضة قربتها له ، قال : لكن لو كان الصبر والطلب يؤدي إلى مهلكة أو مسبعة فهو حينئذ كالصيد ، وإن كان يؤدي إلى موضع لصوص وعصبات مترصدين فوجهان ، والفرق أن تصرفهم وإتلافهم متدارك بالضمان . هذا كلام الإمام . قال الرافعي : والمذهب ما قدمناه عن الأصحاب ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في كيفية الجرح المفيد للحل في الناد والمتردي وجهان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور أنه يكفي جرح يفضي إلى الزهوق كيف كان ( والثاني ) لا بد من جرح مذفف ، واختاره القفال وإمام الحرمين ( فرع ) حيث جرح الناد والمتردي فقتله حل ، سواء كانت الجراحة في فخذه أو خاصرته أو غيرهما من بدنه ، هذا هو المذهب ، وهو المنصوص . وبه قطع العراقيون وجمهور الخراسانيين ، وقال الغزالي في الوسيط : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لو طعنت خاصرته لحلت لك } قال : فقال المراوزة خصص الخاصرة ليكون الجرح مذففا فلا يجوز جرح آخر . وإن كان يفضي إلى الموت . قال : ومنهم من قال : يكفي كل جراحة تفضي إلى الموت ، هذا لفظه في الوسيط ، وفيها منكرات ( منها ) تغيير الحديث ( ومنها ) تغيير الحكم .

                                      ( أما ) الحديث فقد سبق بإنكاره الإمام أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - فقال : هذا اختصار من الغزالي لحديث استدل به في ذلك شيخه إمام الحرمين قال : روي { أن رجلا يعرف بأبي العشراء تردى له بعير [ ص: 143 ] في بئر فهلك ، فرفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي العشراء : وأبيك لو طعنت في خاصرتها لحلت لك } فقال أبو عمرو : وفيما ذكره إمام الحرمين ثلاثة أغلاط ، وذلك أن هذا الحديث تفرد بروايته حماد بن أبي سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال : { قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة قال : وأبيك لو طعنتها في فخذها لأجزأ عنك } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في كتبهم المعتمدة . وأبي العشراء بضم العين وبالمد على وزن الشعراء اسمه أسامة بن مالك ، وقيل غير ذلك ، فوقع فيما ذكره إمام الحرمين الغلط من أوجه .

                                      ( أحدها ) جعله أبا العشراء هو الذي خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أبوه وأبو العشراء تابعي مشهور .

                                      ( والثاني ) في ذكره : تردى البعير في بئر ، الحديث ، وليس ذلك من الحديث ، وإنما هو تفسير من أهل العلم للحديث ، قالوا : هذا عند الضرورة في التردي في البئر وأشباهه . وإن كان الشيخ أبو حامد الإسفراييني قد قال بعد ذكره الحديث دون ذكر التردي : وفي بعض الأخبار أنه سئل عن بعير تردى في بئر فقال : " أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة " ؟ وذكر الحديث ، فإن ذلك أيضا باطل لا يعرف .

                                      ( والثالث ) في قوله : " لو طعنت في خاصرتها " وإنما قال : " في فخذها " وذكر الخاصرة ورد في أثر رويناه ، وذكره الشافعي - رحمه الله - قال : " تردى بعير في بئر وطعن في شاكلته فسئل عبد الله بن عمر فأمر بأكله " والشاكلة الخاصرة ، ولا يثبت والحالة هذه ما رامه المراوزة من تخصيص الخاصرة وأشباهها ، فالصحيح إذن قول غيرهم : إنه يكفي في [ ص: 144 ] أي موضع كان لقوله صلى الله عليه وسلم " لو طعنت في فخذها " هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو ، وهو كما قال ، وهذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم حديث ضعيف ، فقد اتفقوا على أن مداره على أبي العشراء ، قالوا : وهو مجهول لا يعرف إلا في هذا الحديث ، ولم يرو عنه غير حماد بن أبي سلمة ، وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن من لم يرو عنه غير واحد فهو مجهول إلا أن يكون مشهورا بعلم أو صلاح أو شجاعة ونحو ذلك ، ولم يوجد شيء من هذا الاستثناء في أبي العشراء فهو مجهول . واتفقوا على أنه لم يرو عنه غير حماد بن أبي سلمة ، قال الترمذي : هو حديث غريب لا يعرف إلا من حديث حماد ، قال : ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث ، وقال البخاري ، في تاريخه في حديث أبي العشراء وسماعه من أبيه : فيه نظر ، والله أعلم ، فالصواب أنه في أي موضع جرحه فمات منه حل ، سواء الخاصرة والفخذ وغيرهما ، لحديث رافع بن خديج المذكور في الكتاب ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا " وهو ثابت في الصحيح كما سبق ، ولا معارض له ، ولم يثبت له مخصص ، فيجب العمل بعمومه وإطلاقه في كل معجوز عنه كما قاله الأصحاب ، ونص عليه الشافعي ، ويتعين رد ما حكي عن المراوزة ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو وقع بعيران في بئر ، أحدهما فوق الآخر فطعن الأعلى فمات الأسفل بثقله حرم الأسفل ، فلو تعدت الطعنة فأصابته أيضا حلا جميعا ، فإن شك هل مات بالطعنة النافذة ؟ أم بالثقل ؟ وقد علم أن الطعنة أصابته قبل مفارقة الروح حل ، وإن شك هل أصابته قبل مفارقة الروح أم بعدها ؟ قال البغوي في الفتاوى : يحتمل وجهين بناء على القولين في العبد الغائب المنقطع خبره . هل يجزئ في الكفارة ؟ [ ص: 145 ] فرع ) لو رمى حيوانا غير مقدور عليه فصار مقدورا فأصاب غير المذبح لم يحل ، ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه ، فأصاب غير مذبحه حل .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيما إذا توحش الحيوان الإنسي المأكول فلم يقدر عليه كالبعير الناد ، أو الشاة أو البقرة ، أو تردى في بئر وعجز عن عقره في محل الذكاة . فمذهبنا أن كل موضع من بدنه محل لذكاته ، فحيث جرحه فقتله حل أكله ، وبه قال جمهور العلماء ، منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وطاوس وعطاء والشعبي والحسن البصري والأسود بن يزيد والحكم وحماد والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود ، وقال سعيد بن المسيب وربيعة والليث بن سعد ومالك : لا يحل إلا بذكاته في موضع الذبح ، وهو الحلق واللبة ، ولا يتغير موضع الذكاة بتوحشه وترديه . دليلنا حديث رافع بن خديج السابق .




                                      الخدمات العلمية