الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل ، والنكت الوعظية فيه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك ، بل بذلت لك البعض ، فأطلب منك البعض نصفا من العشرين ، وشاة من الأربعين ، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك ، فلا ترد بطاعتك سواي ، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلا من أن تستثنيه لغيرك ، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص ، وأما الالتفات المكروه فذا حظ الشيطان .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : كأنه تعالى قال : يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة ، فإذا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ، ثم إنه سبحانه ملك العالمين ، والعقل ملك لهذا البدن ، فكأنه تعالى بفضله قال : الملك لا يخدم الملك لكن [لكي] نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [البقرة : 29] فاجعل أنت أيضا جميع ما تفعله لأجلي : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( مخلصين ) نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل لوجهه [ ص: 44 ] مخلصا لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا وإن كان لا بد من ذلك ، وفي التوراة : ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل . وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل : الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت اثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك ، وإن زدت في الخشوع ، لأن الناس يرونه لم يجز ، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى ، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك ، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص ، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص ، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص ؟

                                                                                                                                                                                                                                            وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله : ( مخلصين ) :

                                                                                                                                                                                                                                            قال بعضهم : مقرين له بالعبادة ، وقال آخرون : قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة ، وقال الزجاج : أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ، ويدل على هذا قوله : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) [التوبة : 31] .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) ففيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال مجاهد : متبعين دين إبراهيم عليه السلام ، ولذلك قال : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [النحل : 123] وهذا التفسير فيه لطيفة كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية ، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم ، وهو إبراهيم ومن معه ، فقال : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) [الممتحنة : 4] فكأنه تعالى قال : إن كنت تقلد أحدا في دينك ، فكن مقلدا إبراهيم ، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ، ومن ماله حين بذله للضيفان ، ومن ولده حين بذله للقربان ، بل روي أنه سمع : سبوح قدوس فاستطابه ، ولم ير شخصا فاستعاده ، فقال : أما بغير أجر فلا ، فبذل كل ما ملكه ، فظهر له جبريل عليه السلام ، وقال : حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك ، فإن القائل كنت أنا ، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال : أما إليك فلا ، فالحق سبحانه كأنه يقول : إن كنت عابدا فاعبد كعبادته ، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين ، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين ، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم ، فاجتهد في متابعة ولده الصبي ، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره ، فمد عنقه لحكم الرؤيا ، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل ، وهو أم الذبيح ، كيف تجرعت تلك الغصة ، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الاثنتين تقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإرث ، والرقيقة نصف الحرة بدليل أن للحرة ليلتين من القسم ، فهاجر كانت ربع الرجل ، ثم انظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في أولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف لا يكلمها ولا يعطف عليها ، قالت : آلله أمرك بهذا ؟ فأومأ برأسه نعم ، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : المراد من قوله : ( حنفاء ) أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة ، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل ، كقولنا للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ، ونظيره قوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [فصلت : 30] ، ( اهدنا الصراط المستقيم ) [الفاتحة : 5] .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 45 ]

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهم حجاجا ؛ وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال : ( حنفاء ) وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال أبو قلابة : الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم ، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين ، قال عليه السلام : بعثت بالحنيفية السهلة السمحة

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال قتادة : هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم ، فقوله : ( حنفاء ) إشارة إلى النفي ، ثم أردفه بالإثبات ، وهو قوله : ( ويقيموا الصلاة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : قال أبو مسلم : أصله من الحنف في الرجل ، وهو إدبار إبهامها عن أحوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى ، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : قال الربيع بن أنيس : الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته ، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة ، ثم قال : ( وذلك دين القيمة ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال المبرد والزجاج : ذلك دين الملة القيمة ، فالقيمة نعت لموصوف محذوف ، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة ، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله : ( كتب قيمة ) وقال الفراء : هذا من إضافة النعت إلى المنعوت ، كقوله : ( إن هذا لهو حق اليقين ) [ الواقعة : 95 ] والهاء للمبالغة كما في قوله : ( كتب قيمة ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية