الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المسألة الثالثة : أولو الأمر في زماننا وكيف يجتمعون :

                          ذكرنا في تفسير الآية أن أولي الأمر في زماننا هذا هم كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة وكبار التجار والزراع ، وأصحاب المصالح العامة ، ومديرو الجمعيات والشركات ، وزعماء الأحزاب ونابغو الكتاب والأطباء والمحامين ـ وكلاء الدعاوى ـ الذين تثق بهم الأمة [ ص: 162 ] في مصالحها وترجع إليهم في مشكلاتها حيث كانوا ، وأهل كل بلد يعرفون من يوثق به عندهم ويحترم رأيه فيهم ، ويسهل على رئيس الحكومة في كل بلد أن يعرفهم ، وأن يجمعهم للشورى إن شاء ، ولكن الحكام في هذا الزمان مؤيدون بقوة الجند الذي تربيه الحكومة على الطاعة العمياء حتى لو أمرته أن يهدم المساجد ، ويقتل أولي الأمر الموثوق بهم عند أمته لفعل ، فلا يشعر الحاكم بالحاجة إلى أولي الأمر إلا لإفسادهم وإفساد الناس بهم ، ولا يريدون أن يقرب إليه منهم إلا المتملق المدهن ، وقد جرت الدول التي بنت سلطتها على أساس الشورى أن تعهد إلى الأمة بانتخاب من تثق بهم لوضع القوانين العامة للمملكة ، والمراقبة على الحكومة العليا في تنفيذها ، ومن تثق بهم للمحاكم القضائية والمجالس الإدارية ، ولا يكون هذا الانتخاب شرعيا عندنا إلا إذا كان للأمة الاختيار التام في الانتخاب بدون ضغط من الحكومة ولا من غيرها ولا ترغيب ولا ترهيب ، ومن تمام ذلك أن تعرف الأمة حقها في هذا الانتخاب والغرض منه ، فإذا وقع انتخاب غيرهم بنفوذ الحكومة أو غيرها كان باطلا شرعا ، ولم يكن للمنتخبين سلطة أولي الأمر ، ويتبع ذلك أن طاعتهم لا تكون واجبة شرعا بحكم الآية ، وإنما تدخل في باب سلطة التغلب ، فمثل من ينتخب رجلا ليكون نائبا عن الأمة فيما يسمونه السلطة التشريعية وهو مكره على هذا الانتخاب ، كمثل من يتزوج أو يشتري بالإكراه لا تحل له امرأته ، ولا سلعته ، وقد ذكر الأستاذ الإمام اشتراط حرية الانتخاب كما تقدم ، ولكن الإجمال لا يغني في هذا المقام عن التفصيل .

                          خاطب الله الأمة كلها بإقامة القواعد الأربع المنصوصة في الآية بدليل قوله للمخاطبين : وأولي الأمر منكم ، فإذا لم يقم أهل الحل والعقد من أنفسهم بالاجتماع لإقامتها ، فالواجب على مجموع الأمة مطالبتهم بذلك ، ولا يترك الأمر فوضى ، ثم يبحث عن إجماع أهل الحل والعقد ، أو الاجتهاد وعن استنباط أهل الاستنباط في رواية الرواة : قال فلان كذا ، وسكت الناس عن كذا ، وهذه المسألة لا نعرف فيها خلافا فهي إجماعية ، كما وقع منذ زمن الرواية والتدوين والتصنيف إلى اليوم ، فالله تعالى قد ذكر أولي الأمر هنا بصيغة الجمع ، وكذلك ذكرهم بصيغة الجمع في الآية الآتية التي ينوط فيها الاستنباط بهم بقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( 4 : 83 ) ، فعلم من ذلك أنه يجب أن يكون لأولي الأمر مجمع معروف عند الأمة لترد إليهم فيه المسائل المتنازع فيها والمسائل العامة من أمر الأمن والخوف ؛ ليحكموا فيها ، والظاهر أن طاعتهم تجب على الحكومة وأفراد الأمة إذا هم أجمعوا ، وأنه يجب على الحاكم والمحكوم رد المسائل العامة والمتنازع فيها إليهم سواء اجتمعوا بأنفسهم أو بطلب الأمة ، أو بطلب الحكومة بشرط أن يكونوا هم هم .

                          [ ص: 163 ] فإن قيل : أرأيت إذا انتخبت الأمة غير من ذكرتم وفاقا للرازي ، والنيسابوري أنهم أولو الأمر ، ليكونوا هم المستنبطين لما تحتاج إليه من الأحكام والقوانين ، والمشرفين على الحكام والمستشارين لهم ، أيكون أولو الأمر من وصفتم ، وإن لم تنتخبهم الأمة ، أم يكونون هم المنتخبين من قبل الأمة وإن فقدوا تلك الصفات ؟ .

                          أقول في الجواب : إن الأمة إذا كانت عالمة بمعنى الآية ، ومختارة في الانتخاب عالمة بالغرض منه لا يمكن أن تنتخب غير من ذكرنا أنهم هم أهل المكانة الموثوق بعلمهم ورأيهم وإخلاصهم عندها ; لأن هذا هو الذي تقوم به مصلحتها الدينية والدنيوية ، ويتحقق به العمل بما هداها الله إليه في كتابه ، فانتخابها إياهم أثر طبيعي لثقتها بهم ولعلمها بهدي دينها ، وإن كانت جاهلة بما ذكر أو غير مختارة في الانتخاب فلا يكون لانتخابها صفة شرعية ، وإنما الخطاب في الآية لأمة الإجابة في الإسلام وهي المذعنة لأمر الإسلام ونهيه العالمة بما لا بد من علمه فيه ، ولعل جهل الذين كانوا يدخلون في الإسلام أفواجا في الصدر الأول بهذا الحكم ، وعدم معرفتهم لأولي الأمر ، كان أحد الأسباب في عدم العمل بقاعدة الانتخاب .

                          فإن قيل : أيجب انتخاب جميع أهل الحل والعقد لأجل الاجتماع لاستنباط الأحكام العامة التي تحتاج إليها الأمة في سياستها وإدارتها العامة أم يكتفى ببعضهم ؟ أقول : الظاهر أنه يكتفى بأن يقوم بذلك من تحصل بهم الكفاية برضى الباقين ، فإذا فرضنا أن المملكة مؤلفة من مائة مدينة أو ناحية في كل واحدة منها عشرة من أولي الأمر الذين يثق أهلها بعلمهم ورأيهم ، وينقادون لهم يكون مجموع أولي الأمر ألف نسمة ، فإذا هم اختاروا من أنفسهم بالانتخاب ، أو القرعة مائة أو مائتين للقيام بما ذكر حصل المقصد بذلك وكان ما يقررونه إجماعا من الأمة ، ويرجع الناس إلى الباقين في الأمور الخاصة بمكانهم كالشورى في القضاء والإدارة ، وهذا ما يظهر لي أنه أقرب ما يتحقق به العمل بالآية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية