الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3945 3946 ص: وقد روى عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، عن النبي - عليه السلام - ما يدل على ذلك :

                                                حدثنا علي بن معبد ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : "رأيت رسول الله - عليه السلام - واقفا بعرفات ، فأقبل أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج ، . فقال : الحج يوم عرفة ، ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة أيام التشريق ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، ثم أردف خلفه رجلا ينادي بذلك" .

                                                حدثنا علي ، قال : ثنا شبابة بن سوار ، قال : ثنا شعبة ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال : قال رسول الله - عليه السلام - . . . ثم ذكر مثله ، ولم يذكر سؤال أهل نجد ولا إردافه الرجل .

                                                ففي هذا الحديث أن أهل نجد سألوا رسول الله - عليه السلام - عن الحج ، فكان جوابه لهم : " الحج يوم عرفة" .

                                                وقد علمنا أن جواب رسول الله - عليه السلام - هو الجواب التام الذي لا نقص فيه ولا فضل ؛ لأن الله تعالى قد آتاه جوامع الكلم وخواتمه ، فلو كان عندما سألوه عن الحج أرادوا بذلك ما لا بد منه في الحج ، لكان يذكر عرفة والطواف ومزدلفة ، وما يفعل في الحج . سوى ذلك ، فلما ترك ذكر ذلك في جوابه إياهم ، علمنا أن ما أرادوا [بسؤالهم] إياه عن الحج ، وهو ما إذا فات الحج ، ، فأجابهم بأن قال : " الحج يوم عرفة" ، فلو كانت مزدلفة كعرفة لذكر لهم مزدلفة مع ذكره عرفة ، [ ص: 510 ] ولكنه ذكر عرفة خاصة ؛ لأنها صلب الحج ، الذي إذا فات فات الحج ، . ثم قال كلاما مستأنفا ، ليعلم الناس [أن] من أدرك جمعا قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، ، ليس على معنى أنه أدرك جميع الحج ؛ ؛ لأنه قد ثبت في أول كلامه : الحج عرفة ، فأوجب بذلك أن فوت عرفة فوت للحج ، ثم قال : ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج ، ، ليس على معنى أنه لم يبق عليه شيء من الحج ؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو واجب لا بد منه ، ولكن فقد أدرك بما تقدم له من الوقوف بعرفة .

                                                فهذا أحسن ما خرج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روى عبد الرحمن بن يعمر - بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وضم الميم وفي آخره راء - الديلي - بكسر الدال وسكون الياء آخر الحروف - نسبة إلى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة .

                                                وأيضا في عبد قيس : الديل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس .

                                                وفي الأزد : الديل بن هذاذ بن زيد مناة بن الحجر .

                                                وقال يونس : هم ثلاثة : الدول بضم الدال وسكون الواو في حنيفة ، والديل بالكسر وسكون الياء في عبد القيس ، والدئل بضم الدال وكسر الهمزة في كنانة رهط أبي الأسود ، وعداده في أهل الكوفة ، روي عن النبي - عليه السلام - ما يدل على أن الذي يتحقق من حديث عروة بن مضرس هو فرض الوقوف بعرفة خاصة لا غير .

                                                وأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن علي بن معبد بن نوح المصري ، عن يعلى بن عبيد بن أبي أمية الكوفي ، روى له الجماعة ، عن سفيان الثوري ، عن بكير بن عطاء الليثي الكوفي - وثقه يحيى والنسائي ، وقال أبو حاتم : شيخ صالح لا بأس به . روى له الأربعة ، عن عبد الرحمن بن يعمر .

                                                [ ص: 511 ] وأخرجه أبو داود : نا محمد بن كثير ، قال : أنا سفيان ، قال : حدثني بكير ، عن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : "أتيت النبي - عليه السلام - وهو بعرفة ، فجاء أناس أو نفر من أهل نجد ، فأمروا رجلا فنادى رسول الله - عليه السلام - : كيف الحج ؟ فأمر رجلا فنادى : الحج الحج يوم عرفة ، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه ، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه . قال : ثم أردف رجلا خلفه فجعل ينادي بذلك" .

                                                قال أبو داود : كذلك رواه مهران ، عن سفيان : قال : "الحج الحج" مرتين .

                                                ورواه يحيى القطان عن سفيان قال : "الحج" مرة .

                                                وأخرجه الترمذي : نا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ، قالا : ثنا سفيان ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر : "أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - عليه السلام - وهو بعرفة فسألوه ، فأمر مناديا فنادى : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" .

                                                قال محمد : وزاد يحيى : "فأردف رجلا فنادى" ثم قال : وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري .

                                                وأخرجه النسائي : عن عمرو بن علي ، عن يحيى ، عن سفيان . . إلى آخره نحوه .

                                                وابن ماجه : أيضا عن ابن أبي شيبة وعلي بن محمد ، كلاهما عن وكيع ، عن سفيان . . . إلى آخره نحوه .

                                                [ ص: 512 ] الثاني : عن علي بن معبد أيضا ، عن شبابة بن سوار الفزاري ، عن شعبة بن الحجاج ، عن بكير بن عطاء ، عن عبد الرحمن بن يعمر .

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" : ثنا علي بن عبد العزيز ومحمد بن يحيى القزاز البصري ، قال : ثنا حفص بن عمر الحوضي ، نا شعبة ، عن بكير بن عطاء ، قال : سمعت عبد الرحمن بن يعمر الديلي : "أن النبي - عليه السلام - سئل عن الحج ، فقال : يوم عرفة أو عرفات . وقال : من أدرك ليلة جمع قبل أن يصلي فقد أدرك ، أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه" .

                                                قوله : "ففي هذا الحديث" . أي حديث عبد الرحمن بن يعمر : أن أهل نجد سألوا رسول الله - عليه السلام - عن الحج فأجاب - عليه السلام - لهم بقوله : "الحج يوم عرفة" ، وجوابه - عليه السلام - تام لا يأتي إلا على طبق السؤال ، فدل أن الوقوف بعرفة فرض ، ولو كان سؤالهم عن جميع ما لا بد منه في الحج لكان رسول الله - عليه السلام - يذكر مع عرفة الطواف والسعي والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك ، فلما اقتصر في كلامه على قوله : "الحج يوم عرفة" علمنا أن سؤالهم لم يكن إلا عن شيء إذا فات فات الحج بفواته ، فلو كان الوقوف بمزدلفة كالوقوف بعرفة لذكرها مع عرفة ؛ ولم يذكر إلا عرفة لأنها صلب الحج الذي إذا فات الوقوف بها فات الحج .

                                                قوله : "ثم قال كلاما مستأنفا" . أي : ثم قال النبي - عليه السلام - كلاما مبتدأ غير متعلق بالكلام الذي قبله وهو قوله : "ومن أدرك جمعا . . . إلى آخره" وإنما استأنف هذا ليعلم الناس - من الإعلام - من أدرك جمعا - أي المزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج معناه : فقد أدرك الحج بما تقدم له من الوقوف بعرفة ، وليس معناه أنه أدرك جميع الحج على معنى لم يبق عليه شيء من الحج ؛ لأن بعد ذلك طواف الزيارة وهو من فروض الحج . والتحقيق في هذا الموضع أن في قوله : "فقد أدرك الحج" ، إضمار شيء ، تقديره : فقد أدرك معظم الحج وهو الوقوف بعرفة وإدراك الجمع إذ لو لم يقدر هذا لفسد المعنى ؛ لأنه بقي عليه طواف الزيارة وهو من الفروض ، [ ص: 513 ] وكذلك في قوله : "الحج عرفة" إظهار شيء تقديره : معظم الحج الوقوف يوم عرفة ، ولا بد من هذا التقدير ليصح وقوع الخبر عن الحج ؛ لأن الحج فعل وعرفة مكان ويوم عرفة زمان ، فلا يصح أن يكون خبرا عنه ، فكان فيه مضمر في الموضعين وهو قولنا : معظم الحج الوقوف يوم عرفة ، والمجمل إذا التحق به التفسير يصير معتبرا من الأصل ، فكأنه قال : الحج الوقوف بعرفة وظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير ، إلا أنه زيد عليه طواف الزيارة بدليل آخر قوله : "أيام التشريق" بالرفع بدل من قوله : "أيام منى ثلاثة" ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي أيام التشريق ، وتكون الجملة في موضع البيان والتفسير عن الجملة الأولى .

                                                وقال الجصاص في "أحكامه" : اتفق أهل العلم على أن هذا بيان لمراد الآية في قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق ، وقد روي ذلك عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر وغيرهم ، إلا شيئا رواه ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زر ، عن علي - رضي الله عنه - قال : "المعدودات : يوم النحر ، ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت" .

                                                وقد قيل : إن هذا وهم ، والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات ، وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا ؛ لأنه قال : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار المفعول في أيام التشريق .

                                                قوله : "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" . يعني إذا نفر في اليومين ولم يصبر إلى اليوم الثالث للرمي فلا إثم عليه في تعجيله .

                                                روي هذا المعنى عن الحسن وغيره ، وقد قيل : معناه : فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور .

                                                وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود وغيره .

                                                [ ص: 514 ] قوله : "ومن تأخر فلا إثم عليه" . أي : ومن لم ينفر في اليومين وتأخر إلى اليوم الثالث فلا إثم عليه ؛ لأنه يباح له التأخير .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : فرضية الوقوف بعرفة ؛ لما ذكرنا .

                                                والثاني : استدل بقوله : "ومن أدرك جمعا قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" جماعة من الظاهرية على فرضية الوقوف بمزدلفة ، وقال الجصاص : وهو مذهب الأصم وابن علية أيضا ، وقال : إن رواية من روى : "من أدرك جمعا قبل الصبح" وهم ، وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي - عليه السلام - وقوفه بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا ؟ ! ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله : "من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف" ، وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر أنه قال : "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه ، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج . وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بعرفة .

                                                قلت : وقع مثل ما ذكره الجصاص في رواية الترمذي حيث قال : "من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج" ، وفي رواية أبي داود : "من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه" ، وبين الروايتين فرق ؛ لأن رواية الترمذي تقتضي - ظاهرا - أن من لم يدرك ليلة جمع قبل طلوع الفجر أنه لا يكون مدركا للحج ، ورواية أبي داود تقتضي - ظاهرا - أن من لم يدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح أن حجه لا يكون تاما .

                                                قلنا : ولكنه يكون مدركا ؛ لأن عدم التمام لا يستلزم عدم الإدراك ، فيكون مدركا ، ولكن لا يكون حجه تاما ، وليس المخلص من هذا الإشكال إلا بأحد شيئين :

                                                أحدهما : أن نقول بما قاله الجصاص .

                                                [ ص: 515 ] والثاني : أن نؤوله بما أوله الطحاوي ، وهو الأشبه ؛ لأن الحديث صحيح ليس فيه كلام من جهة الإسناد ولا غيره ، وقد أحسن الطحاوي في تأويله ، ولهذا قال : وهذا أحسن ما خرج من معاني هذه الآثار وصحت عليه ولم تتضاد . والله أعلم .

                                                الثالث : فيه بيان أيام الرمي وهي أيام منى التي ترمى فيها الجمار وهي ثلاثة ، ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة بعد يوم النحر ، وأن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار ، وينفر ، وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر .

                                                واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني ، فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم : "أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد .

                                                وقد روي عن الحسن أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله ، فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث .

                                                وقال أصحابنا : إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث ، ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى ، فحينئذ يلزمه في اليوم الثالث ولا يجوز له تركه .




                                                الخدمات العلمية