الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ما روي أنه خمس : شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال ابن مسعود : إنه الأمن والصحة والفراغ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال ابن عباس : إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قال بعضهم : الانتفاع بإدراك السمع والبصر .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : قال الحسن بن الفضل : تخفيف الشرائع وتيسير القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : قال ابن عمر : إنه الماء البارد .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : قال الباقر : إنه العافية ، ويروى أيضا عن جابر الجعفي قال : دخلت على الباقر فقال : ما تقول أرباب التأويل في قوله : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) ؟ فقلت : يقولون : الظل والماء البارد فقال : لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وأسقيته ماء باردا أتمن عليه ؟ فقلت : لا ، قال : فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه ، فقلت : ما تأويله ؟ قال : النعيم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة ، أما سمعت قوله تعالى : ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا ) [ آل عمران : 164 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثامن : إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن .

                                                                                                                                                                                                                                            والتاسع : وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الألف واللام يفيدان الاستغراق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لا سيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى قال : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل ، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة ، ومنها متصلة ومنفصلة ، ومنها دينية ودنيوية ، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة ، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] واستعن في معرفة نعم الله [ ص: 79 ] عليك في صحة بدنك بالأطباء ، ثم هم أشد الخلق غفلة ، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السماوات والكواكب بالمنجمين ، وهم أشد الناس جهلا بالصانع ، وفي معرفة سلطان الله بالملوك ، ثم هم أجهل الخلق ، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته ، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود ، ومنه قول ابن السماك للرشيد : أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك ؟ وإذا شرقت بها أكنت تبذل نصف الملك ؟ وإن احتبس بولك أكنت تبذل كل الملك ؟ فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين . أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره ، قال تعالى : ( أن أفيضوا علينا من الماء ) [ الأعراف : 50 ] أو لأن السورة نزلت في المترفين ، وهم المختصون بالماء البارد والظل ، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه [ أو لا ] ، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفا إلى طاعة الله لا إلى معصيته ، فيكون السؤال واقعا عن الكل ، ويؤكده ما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية