الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويصح البيع من كل بالغ عاقل مختار ، فأما الصبي والمجنون فلا يصح بيعهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم { رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق } ولأنه تصرف في المال ، يفوض إلى الصبي والمجنون كحفظ المال )

                                      [ ص: 184 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث صحيح من رواية علي وعائشة رضي الله عنهما ، سبق في أول كتاب الصلاة ، وأول كتابي الزكاة والصوم وقوله : ( تصرف في المال ) احتراز من اختيار الصبي أحد الأبوين وهو مميز ، ومن عباداته وحمله الهدية ، ومن وطء الصبي والمجنون امرأتيهما ، وأما قياسه على حفظ المال فلأنه مجمع عليه ومنصوص عليه في قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وأما قول المصنف : يصح البيع من كل عاقل بالغ مختار ، فمما ينكر عليه ، لأنه يدخل فيه الأعمى ، وقد ذكر المصنف بعد هذا هو والأصحاب أن المذهب الصحيح أنه لا يصح بيعه ولا شراؤه ، ويدخل أيضا المحجور عليه بالسفه ، وهو لا يصح بيعه فكان ينبغي ، أن يزيد بصيرا غير محجور عليه كما ذكرناه في الفرع السابق قريبا ، وذكرنا هناك أنه يشترط أيضا إسلام المشتري إن اشترى عبدا مسلما أو مصحفا ، والله أعلم . وأما المجنون فلا يصح بيعه بالإجماع ، وكذلك المغمى عليه ( وأما ) السكران فالمذهب صحة بيعه وشرائه وسائر عقوده التي تضره والتي تنفعه [ ص: 182 ] والثاني ) لا يصح شيء منها ( والثالث ) يصح ما عليه دون ماله فعلى هذا يصح بيعه وهبته دون إيهابه ، وتصح ردته دون إسلامه ، وقد ذكر المصنف هذه الأوجه في أول كتاب الطلاق ، وهناك نوضحها بفروعها إن شاء الله تعالى .

                                      ( وأما ) الصبي فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا إجارته وسائر عقوده لا لنفسه ولا لغيره سواء باع بغبن أو بغبطة ، وسواء كان مميزا أو غيره ، وسواء باع بإذن الولي أو بغير إذنه ، وسواء بيع الاختبار وغيره ، وبيع الاختبار هو الذي يمتحنه الولي به ليستبين رشده عند مناهزة الاحتلام ، ولكن طريق الولي أن يفوض إليه الاستلام وتدبير العقد ، فإذا انتهى الأمر إلى العقد أتى به الولي ولا خلاف في شيء مما ذكرته عندنا إلا في بيع الاختبار ، فإن فيه وجها شاذا ضعيفا حكاه إمام الحرمين وآخرون ، من الخراسانيين أنه يصح ، والمذهب بطلانه ، والله أعلم . واستدل المصنف وغيره بهذا الحديث ، ووجه الدلالة منه أنه لو صح البيع لزم منه وجوب التسليم على الصبي ، وقد صرح الحديث بأن الصبي لا يجب عليه شيء ، وقيل : وجه الدلالة منه أن مقتضى الحديث إسقاط أقواله وأفعاله ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) قال الفقهاء : إذا اشترى الصبي شيئا وسلم إليه فتلف في يده أو أتلفه فلا ضمان عليه ، لا في الحال ولا بعد البلوغ ، وكذا لو اقترض مالا ، لأن المالك هو المضيع بالتسليم إليه ، وما دامت العين باقية فللمالك الاسترداد وإن قبضها الولي من الصبي دخلت في ضمان الولي ، ولو سلم الصبي إلى البائع ثمن ما اشتراه لم يصح تسليمه ، ويلزم البائع رده إلى الولي ، ويلزم الولي طلبه واسترداده ، قال أصحابنا : فإن رده إلى الصبي لم يبرأ من الضمان ، قال أصحابنا : وهذا كما لو سلم الصبي درهما إلى صراف لينقده ، أو سلم متاعا إلى مقوم ليقومه ، فإذا قبضه من [ ص: 183 ] الصبي دخل في ضمان القابض ، ولم يجز له رده إلى الصبي ، بل يلزمه أن يرده إلى وليه إن كان المال للصبي ، وإن كان لكامل لزمه رده إلى مالكه أو وكيله فيه ، قال أصحابنا : ولو أمره ولي الصبي بدفعه إلى الصبي فدفعه إليه سقط عنه الضمان إن كان المال للولي ، فإن كان للصبي لم يسقط كما لو أمره بإلقاء مال الصبي في بحر فألقاه ، فإنه يلزمه ضمانه قطعا .

                                      ( فرع ) لو تبايع صبيان وتقابضا وأتلف كل واحد منهما ما قبضه ، قال أصحابنا : إن جرى ذلك بإذن الوليين فالضمان عليهما ، وإلا فلا ضمان على الوليين ويجب في مال الصبيين الضمان لأن تسليمهما لا يعد تسليطا وتضييعا بخلاف تسليم البالغ الرشيد ، والله سبحانه أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لا يصح نكاح الصبي بنفسه ، ولا سائر تصرفاته ، لكن في تدبيره ووصيته خلاف مذكور في موضعه ، والأصح بطلانهما أيضا ، وسواء في هذا كله أذن الولي أم لا ، لأن عبارته ملغاة ، فلا أثر لإذن الولي ، كما لو أذن لمجنون ، وأما إذا فتح الصبي بابا وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول ، أو أوصل هدية ، وأخبر عن إهداء مهديها ، فقال أصحابنا : إن انضمت إلى ذلك قرائن تحصل العلم بذلك جاز الدخول وقبول الهدية ، وهو في الحقيقة عمل بالعلم لا بمجرد قوله ، وإن لم ينضم - نظر إن كان غير مأمون القول - لم يجز اعتماد قوله بلا خلاف ، وإلا فطريقان ( أصحهما ) القطع بجواز الاعتماد وبهذا قطع المصنف في التنبيه في باب الوكالة وآخرون من الأصحاب لإطباق المسلمين على فعل ذلك في جميع الأعصار من غير إنكار ولحصول الظن بصدقه في العادة ( والطريق الثاني ) حكاه الإمام والغزالي وآخرون : فيه وجهان كالوجهين في قبول روايته كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى .



                                      [ ص: 184 ] فرع ) إذا سمع الصبي المميز حديثا فهل يصح تحمله ؟ وتقبل روايته ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أحدهما ) لا تقبل مطلقا ، لا قبل بلوغه ولا بعده ، لضعف ضبطه ، كما لا يصح بيعه وغيره .

                                      ( والثاني ) تصح روايته قبل البلوغ وبعده ، كما حكاه إمام الحرمين والغزالي وسائر الخراسانيين وجماعات من غيرهم لأن الرواية مبنية على المسامحة ، واحتمل فيها أشياء لا تحتمل في غيرها ، كاعتماده على خطه ، وكونها لا ترد بالتهمة وغير ذلك من المسامحة .

                                      ( والثالث ) أنها تقبل بعد البلوغ ، ولا تقبل قبله ، وهذا هو الصحيح بل هو الصواب ، وما سواه باطل ، ومما يرد الأول إجماع الصحابة فمن بعدهم على قبول روايات صغار الصحابة ما تحملوه قبل البلوغ ، ورووه بعده كابن عباس والحسن والحسين وابن الزبير وابن جعفر والنعمان بن بشير وخلائق لا يحصون رضي الله عنهم أجمعين .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : كما لا تصح من الصبي تصرفاته القولية ، لا يصح قبضه في تلك التصرفات ، فلو اتهب له الولي شيئا وقبله ثم قبضه الصبي بإذن الواهب لم يصح قبضه ، ولا يحصل له الملك فيه بهذا القبض ، ولو وهب لأجنبي وأذن الموهوب له للصبي أن يقبضه له ، وأذن له الواهب في القبض فقبضه ، لم يصح بلا خلاف ، ولو قال مستحق الدين لمن هو عليه : سلم حقي إلى هذا الصبي ، فسلم قدر حقه إلى الصبي لم يبرأ من الدين بلا خلاف ، بل يكون ما سلمه باقيا على ملكه حتى لو ضاع ضاع على الدافع ولا ضمان على الصبي ، لأن الدافع ضيعه بتسليمه ، ويبقى الدين على حاله . قال أصحابنا : لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح . ولا يزول الدين عن الذمة كما لو قال صاحب الدين للمدين : ألق حقي في البحر ، فألقى قدر حقه لا يبرأ بلا خلاف وما يتلف من ضمان الملقي ، قال أصحابنا : [ ص: 185 ] ولو قال مالك الوديعة للمودع : سلم وديعتي إلى هذا الصبي ، فسلم إليه خرج من العهدة ، لأنه امتثل أمره في حقه المعين ، كما لو قال : ألقها في البحر فألقاها ، فإنه لا ضمان بلا خلاف ، لأنه أذن في إتلافها ، قال أصحابنا : فلو كانت الوديعة لصبي فسلمها إلى الصبي ضمن ، سواء كان بإذن الولي أو بغير إذنه ، لأنه ليس للمودع تضييعها ، وإن أذن له الولي فيه . هذا لا خلاف فيه ، والله أعلم . ونقل إمام الحرمين في النهاية هذا الفرع عن الأصحاب .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع الصبي المميز . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح سواء أذن له الولي أم لا ، وبه قال أبو ثور وقال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق : يصح بيعه وشراؤه بإذن وليه . وعن أبي حنيفة رواية أنه يجوز بغير إذنه ويقف على إجازة الولي ، قال ابن المنذر : وأجاز أحمد وإسحاق بيعه وشراءه في الشيء اليسير يعني بلا إذن ، دليلنا ما ذكره المصنف




                                      الخدمات العلمية