الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              46 (11) باب

                                                                                              لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين ، بل لا بد من استيقان القلب

                                                                                              [ 25 ] عن أبي هريرة ، قال : كنا قعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، معنا أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - في نفر ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين أظهرنا ، فأبطأ علينا ، وخشينا أن يقتطع دوننا ، ففزعنا وقمنا ، فكنت أول من فزع ، فخرجت أبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار ، فدرت به ، هل أجد له بابا ؟ فلم أجد ، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة - والربيع : الجدول - فاحتفزت ، فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أبو هريرة ؟ فقلت : نعم يا رسول الله ، قال : ما شأنك ؟ قلت : كنت بين أظهرنا ، فقمت ، فأبطأت علينا ، فخشينا أن تقتطع دوننا ، ففزعنا ، فكنت أول من فزع ، فأتيت هذا الحائط ، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب ، وهؤلاء الناس ورائي ، فقال : يا أبا هريرة ! - وأعطاني نعليه - فقال : اذهب بنعلي هاتين ، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشره بالجنة ، وكان أول من لقيت عمر ، فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟! قلت : هاتان نعلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعثني بهما ، من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، بشرته بالجنة . قال : فضرب عمر بيديه بين ثديي ، فخررت لاستي ، فقال : ارجع يا أبا هريرة! فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأجهشت بكاء ، وركبني عمر ، فإذا هو على أثري ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما لك يا أبا هريرة ؟! قلت : لقيت عمر ، فأخبرته بالذي بعثتني به ، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي ، فقال : ارجع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عمر ، ما حملك على ما فعلت ؟ فقال : يا رسول الله - بأبي أنت وأمي! - أبعثت أبا هريرة بنعليك : من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، بشره بالجنة ؟ قال : نعم ، قال : فلا تفعل ; فإني أخشى أن يتكل الناس عليها ، فخلهم يعملون! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فخلهم .

                                                                                              [ ص: 204 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 204 ] (11) ومن باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين ، بل لا بد من استيقان القلب

                                                                                              هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين : إن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان ، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده ، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق ، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح ، وهو باطل قطعا .

                                                                                              و (قوله : " وخشينا أن يقتطع دوننا ") أي : يحال بيننا وبينه بأخذ أو هلاك .

                                                                                              و (قوله : " ففزعنا وقمنا ") أي : تركنا ما كنا فيه ، وأقبلنا على طلبه ; من قولهم : فزعت إلى كذا : إذا أقبلت عليه ، وتفرغت له ; ومنه قول الشاعر :


                                                                                              فزعت إليكم من بلايا تنوبني فألفيتكم منها كريما ممجدا

                                                                                              وقد دل على ذلك قوله : فكنت أول من فزع ، أي : أول من أخذ في طلبه ، وليس هو من الفزع الذي هو الذعر والخوف ; لأنه قد قال قبل هذا : فخشينا أن [ ص: 205 ] يقتطع دوننا ، ثم رتب فزعنا عليه بفاء التعقيب المشعرة بالتسبب ، والفزع : لفظ مشترك ينطلق على ذينك المعنيين ، وعلى الإغاثة .

                                                                                              و (قوله : " فاحتفزت كما يحتفز الثعلب ") رواه عامة الشيوخ في المواضع الثلاثة بالراء من الحفر ، وروي عن الجلودي : بالزاي ; وكأنه الصواب ، ويعني به : أنه تضامم وتصاغر ليسعه الجدول ، ومنه حديث علي : إذا صلت المرأة ، فلتحتفز ، أي : لتضام وتنزو إذا سجدت .

                                                                                              و (قوله : " كنت بين أظهرنا ") أي : بيننا ، ورواه الفارسي : ظهرينا . وقال الأصمعي : العرب تقول : بين ظهريكم وظهرانيكم ; قال الخليل : أي : بينكم .

                                                                                              و (قوله : " وهؤلاء الناس من ورائي ") يعني به : النفر الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام عنهم ، وأخذوا في طلبه ، وهم المعنيون للنبي - صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا - بقوله : فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ، فبشره بالجنة ; فإنه قيده بقوله : من لقيت من وراء هذا الحائط ، ولا شك في أن أولئك هم من [ ص: 206 ] أهل الجنة ، وهذا ظاهر اللفظ . ويحتمل أن يقال : إن ذلك القيد ملغى ، والمراد : هم وكل من شاركهم في التلفظ بالشهادتين واستيقان القلب بهما ; وحينئذ : يرجع إلى التأصيل والتفصيل الذي ذكرناه في الباب قبل هذا .

                                                                                              وفي دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة بنعليه : دليل على جواز عضد المخبر الواحد بالقرائن ; تقوية لخبره وإن كان لا يتهم . وفيه اعتبار القرائن والعلامات ، والعمل على ما يقتضيه من الأعمال والأحكام .

                                                                                              واليقين : هو العلم الراسخ في القلب الثابت فيه ، يقال منه : يقنت الأمر ، بالكسر ، معناه أيقنت واستيقنت وتيقنت ، كله بمعنى واحد ، وربما عبروا عن الظن باليقين ، وباليقين عن الظن ; قال الشاعر :


                                                                                              تحسب هواس وأيقن أنني بها مفتد من واحد لا أغامره

                                                                                              يقول : تشمم الأسد ناقتي يظن أنني أفتدي بها منه وأتركها له ولا أقاتله ، قاله الجوهري .

                                                                                              وقال غيره : اليقين هو السكون مع الوضوح ; يقال : يقن الماء ، أي : سكن وظهر ما تحته .

                                                                                              و (قوله : " وركبني عمر ") أي : اتبعني في الحال من غير تربص ، وضرب عمر [ ص: 207 ] أبي هريرة حتى سقط لم يكن ليؤذيه ويوقعه ، لكن إنما كان ليوقفه ويمنعه من النهوض بالبشرى حتى يراجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن ذلك من عمر اعتراضا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ردا لأمره ، وإنما كان ذلك سعيا في استكشاف عن مصلحة ظهرت له ، لم يعارض بها حكما ولا شرعا ; إذ ليس فيما أمره به إلا تطييب قلوب أصحابه أو أمته بتلك البشرى ، فرأى عمر أن السكوت عن تلك البشرى أصلح لهم ; لئلا يتكلوا على ذلك ، فتقل أعمالهم وأجورهم .

                                                                                              ولعل عمر قد كان سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه معاذ على ما يأتي في حديثه ، فيكون ذلك تذكيرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما قد سمع منه ، ويكون سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك تعديلا على ما قد كان تعذر لهم تبيانه لذلك ، ويكون عمر لما خصه الله تعالى به من الفطنة وحضور الذهن تذكر ذلك . واستبلد أبا هريرة ; إذ لم يتفطن لذلك ولا تذكره ، فضربه تلك الضربة ; تأديبا وتذكيرا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " فخررت لاستي ") أي : على استي ; كما قال تعالى : يخرون للأذقان [ الإسراء : 107 ] أي : عليها ، وكأنه وكزه في صدره فوقع على استه ، وليس قول من قال : خر على وجهه بشيء .

                                                                                              [ ص: 208 ] و (قوله : " أجهشت بكاء ") أي : تهيأت له وأخذت فيه ; قال أبو عبيد : الجهش : أن يفزع الإنسان إلى الإنسان مريدا للبكاء ; كالصبي يفزع لأمه ، فقال : جهشت ، وأجهشت : لغتان ، وقال أبو زيد : جهشت للبكاء والحزن والشوق جهوشا .

                                                                                              وفي هذا الحديث : دليل على جواز تخصيص العموم بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار ، وقد اختلف فيه الأصوليون ، وفيه : عرض المصالح على الإمام وإن لم يستدع ذلك ، وفيه أبواب لا تخفى .




                                                                                              الخدمات العلمية