الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل [ قياس الشبه وأمثلة له ]

وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين ; فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها ، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف ، فقالوا : هذا مقيس على أخيه ، بينهما شبه من وجوه عديدة ، وذاك قد سرق فكذلك هذا ، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي ، وهو قياس فاسد ، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقا ، ولا دليل على التساوي فيها ; فيكون الجمع لنوع شبه خال عن العلة ودليلها .

ومنه قوله تعالى إخبارا عن الكفار أنهم قالوا : { ما نراك إلا بشرا مثلنا } فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها ، واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر ; فكما لا نكون نحن رسلا فكذلك أنتم ، فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا ، وهذا من أبطل القياس ; فإن الواقع من التخصيص والتفضيل وجعل بعض هذا النوع شريفا وبعضه دنيا ، وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا ، وبعضه ملكا وبعضه سوقة ، يبطل هذا القياس ، كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون } .

وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم : { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } وأجاب الله سبحانه عنه بقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وكذلك قوله سبحانه : { وقال الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون } فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب ، وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري ، ونظير هذا قوله : { ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا } [ ص: 116 ] ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري ، ومنه قياسهم الميتة على المذكى في إباحة الأكل بمجرد الشبه .

وبالجملة فلم يجئ هذا القياس في القرآن إلا مردودا مذموما ، ومن ذلك قوله تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } فبين سبحانه أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية ، وأن المعنى المعتبر معدوم فيها ، وأنها لو دعيت لم تجب ; فهي صور خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها ، وزاد هذا تقريرا بقوله : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } أي أن جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها ; لأن المعنى المراد المختص بالرجل هو مشيها ، وهو معدوم في هذه الرجل ; والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد ; والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين ; ومن الأذن سمعها وهو معدوم فيها ، والصور في ذلك كله ثابتة موجودة ، وكلها فارغة خالية عن الأوصاف والمعاني ، فاستوى وجودها وعدمها ، وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المقتضي للحكم ، والله أعلم .

فصل .

[ ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه ]

ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون ; فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس ، أو أحد المحسوسين من الآخر ، واعتبار أحدها بالآخر ، كقوله تعالى في حق المنافقين : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } إلى قوله : { إن الله على كل شيء قدير } فضرب للمنافقين بحسب حالهم مثلين : مثلا ناريا ، ومثلا مائيا ، لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة ; فإن النار مادة النور ، والماء مادة الحياة ، وقد جعل الله سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء متضمنا لحياة القلوب واستنارتها ، ولهذا سماه روحا ونورا ، وجعل قابليه أحياء في النور ، ومن لم يرفع به رأسا أمواتا في الظلمات ، وأخبر عن حال [ ص: 117 ] المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي وأنهم بمنزلة من استوقد نارا لتضيء له وينتفع بها ، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به ، وانتفعوا به ، وآمنوا به ، وخالطوا المسلمين ، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم ، وذهب الله بنورهم ، ولم يقل بنارهم ; فإن النار فيها الإضاءة والإحراق ، فذهب الله بما فيها من الإضاءة ، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فهذا حال من أبصر ثم عمي ، وعرف ثم أنكر ، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه ، فهو لا يرجع إليه ; ولهذا قال : { فهم لا يرجعون } ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي ، فشبههم بأصحاب صيب - وهو المطر الذي يصوب أي ينزل من السماء - فيه ظلمات ورعد وبرق ، فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق ، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق ، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه ، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين ، كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة .

ويقول مخنثهم : سدوا عنا هذا الباب ، واقرءوا شيئا غير هذا ، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم ، وكذلك المشركون على اختلاف شركهم ، إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم ، وثقلت عليهم ، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا ، ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عليهم جدا ، وأنكرته قلوبهم ; وهذا كله شبه ظاهر ، ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء ; فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم .

فصل

وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد ، ولكن في حق المؤمنين ; فقال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات ، وشبه القلوب بالأودية ، فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء [ ص: 118 ] كثيرا وقلب صغير إنما يسع يحسبه كالوادي الصغير ، فسالت أودية بقدرها ، واحتملت قلوب من الهدى والعمل بقدرها ; وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتمل غثاء وزبدا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فيتكدر بها شاربه ، وهي من تمام نفع الدواء ، فإنه أثارها ليذهب بها ، فإنه لا يجامعها ولا يشاركها ; وهكذا يضرب الله الحق والباطل ، ثم ذكر المثل الناري فقال : { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء ; فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم ، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره ; ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما ، والله الموفق .

فصل

ومنها قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها ، حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها ، وحيل بينه وبينها ، فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر ، فيغتر به ، ويظن أنه قادر عليها ، مالك لها ، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة ، فتصبح كأن لم تكن قبل ، فيخيب ظنه ، وتصبح يداه صفرا منها : فكذا حال الدنيا والواثق بها سواء ; وهذا من أبلغ التشبيه والقياس ، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات ، والجنة سليمة منها قال : { والله يدعو إلى دار السلام } فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا ، فعم بالدعوة إليها ، وخص بالهداية من يشاء ، فذاك عدله وهذا فضله [ ص: 119 ]

فصل .

ومنها قوله تعالى : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون } فإنه سبحانه ذكر الكفار ، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، ثم ذكر المؤمنين ، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم ، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن ، وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه ; فشبهه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء وسمعه أصم عن سماع الأصوات ، والفريق الآخر بصير القلب سميعه ، كبصير العين وسميع الأذن ; فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين ، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله : { هل يستويان مثلا } .

ومنها قوله تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } فذكر سبحانه أنهم ضعفاء ، وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم ، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا ، وهو أوهن البيوت وأضعفها ; وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا ، كما قال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون } .

وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب } .

فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ويتكبر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده ، وفي القرآن أكثر من ذلك ، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده .

فإن قيل : فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله : { لو كانوا يعلمون } .

فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت ، وإنما نفى عنهم [ ص: 120 ] علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه ، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا ، وقدرة ، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه .

فصل

ومنها قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } .

ذكر سبحانه للكافرين مثلين : مثلا بالسراب ، ومثلا بالظلمات المتراكمة ، وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان :

أحدهما : من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه ، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم ، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء ، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له ، وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره ، يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك ، وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة - وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم - فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها ، والسراب لا حقيقة له ، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى .

وتأمل ما تحت قوله : { يحسبه الظمآن ماء } والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئا ، بل خانه أحوج ما كان إليه ، فكذلك هؤلاء ، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ، ولغير الله جعلت كالسراب ، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها ، فلم يجدوا شيئا ، ووجدوا الله سبحانه ثم ; فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة { ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب ، فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عزير بن الله ، فيقال : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون ؟ قالوا : نريد أن تسقينا ، فيقال : اشربوا ، فيتساقطون في جهنم ، ثم يقال للنصارى : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد المسيح بن الله ، فيقال لهم : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون : فيقولون : نريد أن تسقينا ، فيقال لهم : اشربوا ، فيتساقطون } وذكر الحديث ، وهذه [ ص: 121 ] حال كل صاحب باطل ، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه ، فإن الباطل لا حقيقة له ، وهو كاسمه باطل ; فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا ; وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة - كالعمل لغير الله ، أو على غير أمره - بطل العمل ببطلان غايته ، وتضرر عامله ببطلانه ، وبحصول ضد ما كان يؤمله ، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده ، لا له ولا عليه ، بل صار معذبا بفوات نفعه ، وبحصول ضد النفع ; فلهذا قال تعالى : { ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى .

فصل

والنوع الثاني : أصحاب مثل الظلمات المتراكمة ، وهم الذين عرفوا الحق والهدى ، وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال ، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين ، وظلمة اتباع الغي والهوى ، فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ، ومن فوقه سحاب مظلم ، فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب ، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان ، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين ، وهو المثل المائي والمثل الناري ، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة ; فكذلك الكفار في هذين المثلين ، حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له ، وحظهم الظلمات المتراكمة ، وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار ، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي ; فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد ; ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار ، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة ، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف ، فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى ، وآثروا الباطل على الحق ، وعموا عنه بعد أن أبصروه ، وجحدوه بعد أن عرفوه ، فهذا حال المغضوب عليهم ، والأول حال الضالين ; وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى : { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح } إلى قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة : المنعم [ ص: 122 ] عليهم وهم أهل النور ، والضالين وهم أصحاب السراب ، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة ، والله أعلم .

فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع ، والمثل الثاني لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة ، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه ، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم ، وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل ، فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين ، وليطابق بينهما وبين المثلين ، يعرف عظمة القرآن وجلالته ، وأنه تنزيل من حكيم حميد .

وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورا ، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور ; فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله خلق خلقه في ظلمة ، وألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل } فلذلك أقول : جف القلم على علم الله ، فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة ، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيي به قلبه وروحه كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه ، فهما حياتان : حياة البدن بالروح ، وحياة الروح والقلب بالنور ، ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، كما قال تعالى : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } وقال : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } وقال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فجعل وحيه روحا ونورا ، فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ، ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات ما له من نور .

فصل

ومنها قوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } فشبه أكثر الناس بالأنعام ، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له ، وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام ; لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق ، فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا ، والأكثرون [ ص: 123 ] يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم ، والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره ، والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ، ولا ألسنة تنطق بها ، وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار ، فهم أضل من البهائم ، فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه .

فصل

ومنها قوله تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء ، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم ، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم ، ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ، ويحتج عليه بما هو في نفسه ، مقرر عندها ، معلوم لها ، فقال : هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل ؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ، ويستأثرون ببعضها عليكم ، كما يخاف الشريك شريكه ؟ وقال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا ، والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار ؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي ؟ فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم - مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم ; إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة ، وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، وأنتم وهم عبيد لي - فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي ، مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي ؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول

التالي السابق


الخدمات العلمية