الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وإن لم يظن ورشح فتله بأنامل يسراه فإن زاد عن درهم قطع كأن لطخه أو خشي تلوث مسجد وإلا فله القطع وندب البناء )

                                                                                                                            ش هذا قسيم قوله وظن دوامه يعني وإن حصل الرعاف في الصلاة ولم يظن دوامه لآخر الوقت فله ثلاث حالات الأولى أن يكون يسيرا يذهبه الفتل بل يكون الدم يرشح ولا يسيل ولا يقطر فهذا لا يجوز له قطع الصلاة ولا أن يخرج منها فإن قطع [ ص: 476 ] أفسد صلاته وإن كان إماما أفسد عليه وعلى المأمومين بل يفتله بأصابعه وكيفية فتله أن يجعل أنملة الإصبع في أنفه ويحركها مديرا لها واختلف في الفتل هل هو باليدين جميعا وهو ظاهر المدونة وصرح به أبو الحسن الصغير ووقع في بعض نسخ الشارمساحي أو بيد واحدة وهو الذي حكاه الباجي عن مالك وابن نافع وحكاه ابن يونس عن مالك في المجموعة وجعله ابن عبد السلام المذهب فقال : قالوا بأنامله الأربع مع أنه كالمتبري وعليه فهل باليد اليسرى وهو الذي حكاه الباجي وغيره أو باليد اليمنى حكاه في التوضيح عن الشارمساحي وعليهما فالفتل بالأنامل العليا الخمس وتأول في التوضيح قوله في المجموعة يفتله بأنامله الأربع فقال : أي يفتله بإبهامه وأنامله الأربع قال : والمراد بالأنامل الأنامل العليا فإن زاد إلى الوسطى قطع هكذا حكى الباجي وحكى ابن رشد أن الكثير هو الذي يزيد إلى الأنامل الوسطى بقدر الدرهم في قول ابن حبيب وأكثر العليا ولهذا قال : فإن زاد عن درهم أي فإن زاد على الأنامل الوسطى وزاد عن درهم قطع وقد علمت أنه مشى على أن الفتل بيد واحدة كما هو المذهب وأنه باليسرى وعلى ما حكاه الباجي وغيره عن المذهب .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قوله وإن لم يظن شامل لما إذا شك في الدوام أو رجا الانقطاع كما صرح به ابن هارون ونقله صاحب الجمع ومن باب أحرى إذا رجا انقطاعه بالفتل والله أعلم ، ( الثاني ) ظاهر كلام المصنف أن الفتل إنما يؤمر به فيما إذا كان يرشح فقط أما إذا سال أو قطر فلا ولو كان الدم الذي يسيل ثخينا يذهبه الفتل وكأنه اعتمد كلام اللخمي فإنه قال : الرعاف أربعة أقسام يسير يذهبه الفتل وكثير لا يذهبه الفتل ولا يرجى انقطاعه متى خرج لغسله لعادة علمها من نفسه فهذان لا يخرجان من الصلاة يفتل هذا ويكف الآخر ما استطاع ويمضي في صلاته وكثير يرجو انقطاعه متى غسله فهذا يخرج لغسله ويعود وكثير يذهبه الفتل لثخانته واختلف فيه هل يفتله ويمضي أو يخرج بغسله فقال ابن حبيب رأيت ابن الماجشون يصيبه الرعاف في الصلاة فيمسحه بأصابعه حتى تختضب فيغمس أصابعه في حصباء المسجد ويردها ثم يمضي في صلاته وقال مالك في المبسوط إذا خرج من أنف المصلي دم يفتله فإن كان يسيرا فلا بأس به وإن كان كثيرا فلا أحب ذلك حتى يغسل أثر الدم انتهى وفي المدونة وينصرف من الرعاف في الصلاة إذا سال أو قطر قل ذلك أو كثر فليغسله ثم يبني على صلاته وإن كان غير سائل ولا قاطر فليفتله بأصبعه انتهى . وحمل صاحب الطراز كلام المدونة وكلام ابن حبيب على الوفاق وإن معنى قوله في المدونة ينصرف إذا سال أو قطر وإن قل أنه ليس عليه أن يستبرئ أمره هل يذهبه الفتل أم لا بل متى سال أو قطر جاز له أن ينصرف لأن القدر المؤذن بذلك قد وجد وهو الدم السائل فإن لم ينصرف وتربص وانقطع بالفتل فلا تفسد صلاته .

                                                                                                                            ثم ذكر كلام ابن حبيب الذي ذكره اللخمي وهذا هو الظاهر فكل ما يذهبه الفتل فلا يقطع لأجله الصلاة كما نقل صاحب الجمع عن ابن هارون في بيان اليسير وقال في المقدمات لا يخلو إما أن يكون يسيرا يذهبه الفتل أو لا والثاني أن يكون كثيرا قاطرا أو سائلا لا يذهبه الفتل انتهى .

                                                                                                                            ( الثالث ) قال ابن غازي جعل المصنف هنا الدراهم من حيز اليسير وجعله في المعفوات من حيز الكثير حيث قال : ودون درهم من دم مطلقا فجمع بين القولين قال في التوضيح فإن زاد إلى الوسطى قطع هكذا حكى الباجي وحكى ابن راشد أن الكثير هو الذي يزيد إلى الأنامل الوسطى بقدر الدرهم في قول ابن حبيب وأكثر منه في رواية ابن زياد وفهم ابن عرفة قول ابن رشد على التفسير للمذهب فقال : وأنامل غيرها كدم غيره ويؤيده أن ابن يونس فسر به رواية المجموعة السابقة ونحوها لعبد الحق في النكت [ ص: 477 ] ولغير واحد انتهى قلت فقول الباجي إن زاد إلى الوسطى قطع يعني إذا بلغ الذي في الوسطى قدر الدرهم في قول ابن حبيب أو زاد عليه في رواية ابن زياد ويمكن أن يقال إنما جعل المصنف هنا الدرهم من حيز اليسير لأن باب الرعاف باب ضرورة فسومح فيه والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            وقوله كان لطخه يتعين أن يكون هكذا بكاف التشبيه الداخلة على أن الشرطية ويكون مشيرا به إلى الحال الثانية وهي أن يسيل الدم أو يقطر ويتلطخ به في ثيابه أو بدنه بأكثر القدر المعفو عنه قال في المقدمات من شروط البناء أن لا يسقط على ثوبه أو بدنه من الدم ما لا يغتفر لكثرته وقد تقدم الاختلاف في حده لأنه إن سقط من الدم على ثوبه أو جسده كثير بطلت صلاته باتفاق انتهى .

                                                                                                                            ونحوه لابن بشير وابن شاس وصاحب الذخيرة ونبه على ذلك ابن هارون وابن راشد كما نقله صاحب الجمع وعلى هذا فمعنى قول المصنف قطع أنه بطلت صلاته فلا يجوز له التمادي فيها ولو بنى عليها لم تصح لا أنه يحتاج إلى أن يقطعها كما في قوله وإلا فله القطع وندب البناء كما سيأتي ولا بد من هذه الكاف لئلا يفسد الكلام فإنه لو سقطت الكاف يصير شرطا وحينئذ إما أن يجعل شرطا لقوله فإن زاد عن درهم قطع ولا قائل باشتراط التلطخ في ذلك بل نفس الزيادة عن الدرهم موجبة للقطع وهي من التلطخ وإما أن يجعل شرطا لقوله فتله بأنامل يسراه وهو واضح الفساد ويفسد بذلك بقية الكلام أعني قوله وإلا فله القطع ولهذا قال البساطي لما حمله على الشرط معناه أنه إذا أزاد الدم الذي يرشح على الدرهم قطع شرط مركب من أمرين على البدل أحدهما إذا لطخ ثيابه والثاني إذا خشي تلوث مسجد والله - تعالى - أعلم بصحة هذا الكلام وعلى هذا المعنى ولنذكر كلام ابن الحاجب فذكره وذكر كلام المصنف في التوضيح عليه ثم قال : فأنت ترى القطع في الذي يرشح ويفتله إذا زاد من غير شرط والقطع في الذي يسيل بالشرط من غير تعرض لقدر ثم قال في قوله وإلا فله القطع وندب البناء كلام مشكل بناء على إشكال الكلام المتقدم انتهى

                                                                                                                            وأما الشارح فجعل قوله فإن زاد على درهم إلخ إشارة للحالة الثانية من غير تبيين لمراد المصنف وكذلك الأقفهسي فيتعين إثبات الكاف ليزول بذلك الإشكال ويصير به الكلام في غاية الحسن والكمال وأما قوله أو خشي تلوث مسجد فهو من تمام المسألة الأولى ويشير به إلى ما قاله سند ونقله عنه القرافي في ذخيرته ونص كلام القرافي : والفتل إنما شرع في مسجد محصب غير مفروش حتى ينزل المفتول في خلال الحصباء أما المفروش فيخرج من أول ما يسيل أو يقطر أحسن لأنه ينجس الموضع انتهى ، ونص كلام سند بعد أن تكلم على الفتل وهذا الذي قلناه إنما يكون في غير المسجد أو في مسجد محصب غير مفروش فيكون ما يسقط من تفتيله للدم ينزل لرقته في خلال الحصباء أما المفروش فخروجه من أول ما يسيل أو يقطر أحسن لأنه إذا فتل ذلك سقط على الفراش فينجس الموضع فإن فتله فذلك خفيف لأن ذلك يستهلك وقد ينزل بين السماد لأنه في حكم التراب يدخل في خلال الأشياء انتهى وكأنه يعني إذا كان الدم يسيل ويذهبه الفتل وقوله ينزل المفتول في خلال الحصباء كأنه والله أعلم يعني ما يحصل من حك الأصابع مما يتجسد عليها من الدم والله أعلم .

                                                                                                                            وقوله وإلا فله القطع وندب البناء يشير به إلى الحالة الثانية وهي أن يسيل الدم أو يقطر بحيث لا يذهبه الفتل ولكنه لم يتلطخ به ثوبه أو جسده أو تلطخ به من ذلك شيء يسير لا يوجب القطع وهو الدرهم فما دونه على ما مشى عليه المصنف فيجوز القطع وهو الذي يقتضيه القياس وتوجيه النظر لأن الشأن في الصلاة أن يتصل عملها بها ولا يتخللها شغل كثير ولا انحراف عن القبلة إلا أنه قد جاء عن جمهور الصحابة والتابعين إجازة البناء في [ ص: 478 ] الصلاة بعد غسل الدم واختلف في المستحب من ذلك قال في المقدمات فاختار ابن القاسم القطع بسلام أو كلام على القياس قال : فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة واختار مالك - رحمه الله - البناء على اتباع السلف وإن خالف ذلك القياس وهذا على أصله أن العمل أقوى من القياس لأن عمل السلف المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف وذكر ابن حبيب ما يدل على وجوب البناء وهو قوله : إن الإمام إذا رعف فاستخلف بكلام جاهلا أو عامدا بطلت صلاته وصلاتهم فجعل قطع صلاته بالكلام بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول أو مستحب في قول فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو يستحب له انتهى .

                                                                                                                            فهذه ثلاثة أقوال وحكى ابن عرفة وابن ناجي في شرح الرسالة قولا رابعا بأنهما سواء لا مزية لأحدهما على الآخر قالا نقله غير واحد كصاحب التلقين وزاد ابن عرفة خامسا بأنه يقطع ومشى المصنف على استحباب البناء لأنه قول مالك على أنه قد حكى الباجي عن مالك من رواية ابن نافع وعلي بن زياد ترجيح القطع وعليه اقتصر ابن بشير وعلله الباجي بأنه يخرج من الخلاف ويؤدي الصلاة باتفاق وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة وقد رجح قوم القطع وهو أولى بالعامي ومن لا يحكم التصرف في العلم بجهله انتهى .

                                                                                                                            ( تنبيه ) قال في المقدمات ولا يخرج الراعف عن حكم الصلاة وحرمتها على مذهب من يجيز له البناء إلا بأن يقطع بسلام أو كلام أو فعل ما لا يصح فعله في الصلاة وهذا وجه قول ابن حبيب أن من رعف وهو جالس في وسط صلاته أو ساجد أو راكع أن قيامه من الجلوس أو رفعه من السجود والركوع لرعافه يعتد به من صلاته وقال في الطراز فإن اختار الراعف أن يبتدئ فليقطع صلاته بما ينافيها من غير فعل الراعف باتفاق فإن لم يفعل قال ابن القاسم في المجموعة : إن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة وهذا صحيح لأنا إذا حكمنا بأن ما هو فيه من العمل لا يقطع البناء حكمنا بأنه باق على حكم إحرامه الأول فإذا كان قد صلى ركعة ثم ابتدأ الأولى أربعا صار كمن صلى خمسا جاهلا ويتخرج فيها قول يأتي على الخلاف في رفض النية على ما يأتي في كتاب الصلاة انتهى قلت : والمشهور أن الرفض مبطل فيكفي في الخروج من الصلاة رفضها وإبطالها ش

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية