الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : فإن قال قائل : قد وجدنا من المفترين المدعين قد ظهروا في العالم ، وصار لهم أتباع مثل أتباع الأنبياء ، قلنا لهم : من هم؟

فلا يتهيأ أن يسموا أحدا له تبع ورسم قائم غير زردشت ومزدك وماني وبهافريد .

قلنا له : زردشت ومزدك وبهافريد فإن ثلاثتهم ادعوا في زمانهم أن كل واحد في زمانه هو المستقيم على دين إبراهيم ، ولم يدع واحد منهم خلافا عليه أي على إبراهيم . فبريحه والانتساب إليه اجتمع له الأتباع والأصحاب ، لا بسياستهم وسلطانهم ، وإنهم لم يشرعوا دينا ، بل ادعى كل واحد منهم في زمانه أن شريعة إبراهيم [ ص: 187 ] هي ما كل واحد منهم عليه ، يزاد فيه وينقص منه لطول الزمان الذي أتى عليه ، وكل واحد منهم ترجم في كتابه في زمانه لقومه وأتباعه على لسانهم .

قال : وأما ماني فإنه ادعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على منهاج إبراهيم ، وأن غيره من النصارى قد زاغوا عن طريقه ، وأن الإنجيل المنزل على عيسى هو الذي عنده ، وادعى أنه حين ارتقى إلى السماء أرقي إلى عيسى ، وأنه بأمره عمل ما عمل وأسس ما أسس ، فبريح المسيح تروح له ما تروح ، وتبعه من تبعه ، لا برأيه .

قلت : والمشركون أعداء إبراهيم الذين يبغضونه ويحبون عدوه النمرود موجودون إلى اليوم من مشركي الترك والصين ونحوهم ، يصورون الأصنام على صورة النمرود كبارا وصغارا ، وفيها ما هو كبير جدا ، ويعبدون تلك الأصنام ويسبحون باسم النمرود ، ومعهم مسابح يسبحون بها : سبحان النمرود! سبحان النمرود!

وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعله إماما لمن بعده من الناس ، فلا يوجد قط مؤمن ولا منافق يظهر الإيمان إلا وهو معظم لإبراهيم . وإن كان فيهم من يكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم . وقد جعل الله في ذريته النبوة والكتاب ، فالأنبياء بعده من ذريته ، فلا يوجد من يؤمن بالأنبياء إلا وهو مؤمن بإبراهيم ، ولا من يدعو إلى عبادة الله في الجملة وينهى عن الشرك إلا وهو معظم لإبراهيم .

وإن كان فيهم من هو مكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم ، ومكذب ببعض الأنبياء والرسل فإبراهيم بريء منه ، ومن ذريته محسن وظالم لنفسه مبين ، كما كان مشركو العرب ، وكما يوجد عليه أهل الكتاب ، [ ص: 188 ] فإنه حين بعث إبراهيم كان الشرك قد طبق الأرض ، وامتلأت بعبادة الكواكب العلوية والأصنام السفلية ، فأظهر التوحيد ودعا إليه ، وعادى الشرك وأهله ، ونصره الله على قومه .

والقرآن في غير موضع بين أنه كان حنيفا ، وجعل الحنيفية صفته ، حتى إن لفظ "حنيف" ينصب على الحال من المضاف إليه ، كقوله : قل بل ملة إبراهيم حنيفا و أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، وهذا منصوب على الحال ، والكوفيون يسمونه نصبا على القطع ، لكونه لم يكن صفة في اللفظ فقطع ، وهو معنى قول البصريين إنه منصوب على الحال .

وقد قال بعض النحويين : انتصاب الحال على المضاف إليه لا يجوز حتى يكون المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد ، كقوله : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا هو حال من الأخ ، لأنه واللحم شيء واحد . وقوله : قل بل ملة إبراهيم حنيفا كذلك ، لأن الملة بمنزلة البعض منه ، كقول عدي بن حاتم -لما أتاه يعرض عليه الإسلام- : "إني على ديني" ، كأنه قال هجنة منه . ولهذا يجوز لك أن تقول : "أعمى زيد علمه ودينه" فتجعلهما بدلا من زيد .

( آخر ما وجد . والله أعلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية