الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  115 56 - حدثنا صدقة ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن معمر ، عن الزهري ، عن هند ، عن أم سلمة وعمرو ويحيى بن سعيد ، عن الزهري ، عن هند ، عن أم سلمة ، قالت : استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ، فقال : سبحان الله ! ماذا أنزل الليلة من الفتن ؟ وماذا فتح من الخزائن ؟ أيقظوا صواحب الحجر ، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الباب له ترجمتان وهما : العلم والعظة أو اليقظة بالليل ، فمطابقة الحديث للترجمة الأولى في قوله " ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن " وقوله " فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " ، ومطابقته للترجمة الثانية في قوله " أيقظوا صواحب الحجر " .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم ثمانية :

                                                                                                                                                                                  الأول : صدقة بن فضل المروزي أبو الفضل ، انفرد بالإخراج عنه البخاري عن الستة ، وكان حافظا إماما ، مات سنة ثلاث ، وقيل : ست وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : سفيان بن عيينة .

                                                                                                                                                                                  الثالث : عن معمر بن راشد .

                                                                                                                                                                                  الرابع : محمد بن مسلم الزهري .

                                                                                                                                                                                  الخامس : عمرو بن دينار .

                                                                                                                                                                                  السادس : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأخطأ من قال : إنه يحيى بن سعيد القطان ; لأنه لم يسمع من الزهري ولا لقيه .

                                                                                                                                                                                  السابع : هند بنت الحارث الفراسية ، ويقال : القرشية ، وعند الداودي : القادسية ، ولا وجه له كانت زوجة لمعبد بن المقداد ، وفي التهذيب أسقط معبدا ، وهو وهم روى لها الجماعة إلا مسلما .

                                                                                                                                                                                  الثامن : أم سلمة هند ، وقيل : رملة زوج النبي عليه الصلاة والسلام بنت أبي أمية حذيفة ، ويقال : سهل بن المغيرة .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 173 ] ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم
                                                                                                                                                                                  ، كانت عند أبي سلمة فتوفي عنها ، فتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام ، روي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وثمانية وسبعون حديثا ، اتفقا منها على ثلاثة عشر حديثا ، هاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة ، وقال ابن سعد : هاجر بها أبو سلمة إلى الحبشة في الهجرتين جميعا فولدت له هناك زينب ، ثم ولدت بعدها سلمة وعمر ودرة ، تزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام في شوال سنة أربع وتوفيت سنة تسع وخمسين ، وقيل : في خلافة يزيد بن معاوية ، وولي يزيد في رجب سنة ستين ، وتوفي في ربيع سنة أربع وستين ، وكان لها حين توفيت أربع وثمانون سنة ، فصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه في الأصح ، واتفقوا أنها دفنت بالبقيع ، روى لها الجماعة .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده

                                                                                                                                                                                  منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة ، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين في نسق ، ومنها أن فيه رواية صحابية عن صحابية على قول من قال : إن هندا صحابية إن صح ، ومنها أن فيه رواية الأقران في موضعين أحدهما ابن عيينة عن معمر ، والثاني عمرو ويحيى عن الزهري .

                                                                                                                                                                                  قوله " عن هند " في رواية الأكثرين . وفي رواية الكشميهني : " عن امرأة " ، وقوله : عن امرأة ، في رواية الأكثرين . وفي رواية أبي ذر : عن هند ، والحاصل أن الزهري ربما كان سماها باسمها ربما أبهمها .

                                                                                                                                                                                  قوله " وعمرو " بالجر عطف على معمر يعني ابن عيينة يروي عن معمر بن راشد ، وعن عمرو بن دينار ، وعن يحيى بن سعيد ، ثلاثتهم يروون عن الزهري ، وقد روى الحميدي هذا الحديث في مسنده ، عن ابن عيينة قال : حدثنا معمر ، عن الزهري قال : وحدثنا عمرو ويحيى بن سعيد ، عن الزهري ، فصرح بالتحديث عن الثلاثة ، ويجوز : وعمرو ، بالرفع وروي به . ووجهه أن يكون استئنافا ، وقد جرت عادة ابن عيينة يحدث بحذف صيغة الأداء .

                                                                                                                                                                                  قوله " ويحيى " عطف على عمرو في الوجهين ، وقال الشيخ قطب الدين : وقد أخرجه البخاري في السند الأول متصلا فذكر فيه هندا ، وفي السند الثاني عن امرأة لم يسمها ، وقد سماها في بقية الأبواب ، والاعتماد فيه على المتصل ، وقال الكرماني : ويحتمل أن يكون أي الإسناد الثاني تعليقا من البخاري عن عمرو ، ثم قال : والظاهر الأصح هو الأول أي الإسناد الأول . قلت : كلاهما صحيحان متصلان كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره :

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في صلاة الليل ، عن محمد بن مقاتل ، عن عبد الله بن المبارك ، عن معمر . وفي اللباس ، عن عبد الله بن محمد ، عن هشام بن يوسف ، عن معمر . وفي علامات النبوة في موضعين من كتاب الأدب ، عن أبي اليمان ، عن شعيب . وفي الفتن ، عن إسماعيل ، عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق ، كلهم عن الزهري ، عن هند به .

                                                                                                                                                                                  قال الحميدي : هذا الحديث مما انفرد به البخاري ، عن مسلم . وأخرجه الترمذي في الفتن ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به ، وقال : صحيح . وأخرجه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن شهاب مرسلا .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب والمعاني

                                                                                                                                                                                  قوله " استيقظ " بمعنى تيقظ ، وليس السين فيه للطلب كما في قوله عليه السلام : " إذا استيقظ أحدكم من منامه " ، ومعناه : انتبه من النوم ، وهو فعل وفاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                  قوله " ذات ليلة " أي في ليلة ، ولفظة " ذات " مقحمة للتأكيد ، وقال الزمخشري : هو من إضافة المسمى إلى اسمه .

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : أما قولهم : ذات مرة ، وذو صباح . فهو من ظروف الزمان التي لا تتمكن ، تقول : لقيته ذات يوم وذات ليلة . قلت : إنما لم يتصرف ذات مرة وذات يوم ، وذو صباح وذو مساء لأمرين أحدهما أن إضافتها من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم ; لأن قولك : لقيتك ذات مرة وذات يوم ، قطعة من الزمان ذات مرة وذات يوم أي صاحبة هذا الاسم ، وكذا ذو صباح وذو مساء أي وقت ذو صباح أي صاحب هذا الاسم ، فحذفت الظروف وأقيمت صفاتها مقامها فأعربت بإعرابها ، وإضافة المسمى للاسم قليلة ; لأنها تفيد بدون المضاف ما تفيده معه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أن " ذات وذو " من ذات مرة وأخواتها ليس لهما تمكن في ظروف الزمان ; لأنهما ليسا من أسماء الزمان ، وزعم السهيلي أن ذات مرة وذات يوم لا يتصرفان في لغة خثعم ولا غيرها .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال " عطف على استيقظ ، قوله “ سبحان الله " مقول القول وسبحان علم للتسبيح كعثمان علم للرجل ، وانتصابه على المصدرية والتسبيح في اللغة التنزيه ، والمعنى هنا أنزه الله تنزيها عما لا يليق به ، واستعماله هنا للتعجب ; لأن العرب قد تستعمله في مقام التعجب .

                                                                                                                                                                                  قوله " ماذا " فيه أوجه : الأول : أن يكون " ما " استفهاما و” ذا " إشارة نحو : ماذا الوقوف .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أن تكون " ما " استفهاما و” ذا " موصولة بمعنى الذي .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أن تكون " ماذا " كلمة استفهام على التركيب ، كقولك : لماذا جئت ؟

                                                                                                                                                                                  الرابع : أن تكون " ما " نكرة موصوفة بمعنى شيء .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أن تكون " ما " زائدة و” ذا " للإشارة " .

                                                                                                                                                                                  السادس : أن تكون " ما " استفهاما [ ص: 174 ] وذا زائدة ، أجازه جماعة منهم ابن مالك .

                                                                                                                                                                                  قوله " أنزل " على صيغة المجهول . وفي رواية الكشميهني : أنزل الله ، والإنزال في اللغة إما بمعنى الإيواء كما يقال : أنزل الجيش بالبلد ونزل الأمير بالقصر ، وإما بمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل ; كقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء وهذان المعنيان لا يتحققان في أنزل الله ، فهو مستعمل في معنى مجازي بمعنى أعلم الله الملائكة بالأمر المقدر ، وكذلك المعنى في أنزل الله القرآن ، فمن قال : إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى ، فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ ، ومن قال : القرآن هو الألفاظ ، فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ ; لأن الإنزال إنما يكون بعد الوجود ، والمراد بإنزال الكتب السماوية أن يتلقاها الملك من الله تلقيا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحي إليه في يومه ذلك بما سيقع بعده من الفتن فعبر عنه بالإنزال .

                                                                                                                                                                                  قوله " الليلة " بالنصب على الظرفية ، قوله “ وماذا فتح من الخزائن " الكلام فيه من جهة الإعراب مثل الكلام فيما أنزل وعبر عن الرحمة بالخزائن ; كقوله خزائن رحمة ربي وعن العذاب بالفتن ; لأنها أسباب مؤدية إلى العقاب ، وقال المهلب : فيه دليل على أن الفتن تكون في المال وفي غيره ; لقوله : " ماذا أنزل من الفتن وماذا فتح من الخزائن " ، وقال الداودي : قوله " ماذا أنزل الليلة من الفتن " ، وهو ما فتح من الخزائن ، قال : وقد يعطف الشيء على نفسه تأكيدا ; لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتنة ، واحتج الأول بقول حذيفة رضي الله عنه : فتنة الرجل في أهله وماله يكفرها الصلاة والصدقة . قلت : المعنى أنه عليه الصلاة والسلام رأى في تلك الليلة المنام ، وفيه أنه سيقع بعده فتن وأنه يفتح لأمته الخزائن ، وعرف عند الاستيقاظ حقيقته إما بالتعبير أو بالوحي إليه في اليقظة قبل النوم أو بعده ، وقد وقعت الفتن كما هو المشهور ، وفتحت الخزائن حيث تسلطت الصحابة رضي الله عنهم على فارس والروم وغيرهما ، وهذا من المعجزات حيث أخبر بأمر قبل وقوعه ، فوقع مثل ما أخبر .

                                                                                                                                                                                  قوله " أيقظوا " بفتح الهمزة ; لأنه أمر من الإيقاظ بكسر الهمزة ، قوله “ صواحب الحجر " كلام إضافي مفعوله وأراد بها زوجاته عليه الصلاة والسلام ، وهو جمع صاحبة ، والحجر بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة وأراد بها منازل زوجاته ، وإنما خصهن بالإيقاظ ; لأنهن الحاضرات حينئذ ، أخبرت بذلك أم سلمة رضي الله عنها كان تلك الليلة ليلتها ، وهو الظاهر .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : يجوز " إيقظوا " بكسر الهمزة أي انتبهوا ، والصواحب منادى لو صحت الرواية به . قلت : هذا ممنوع من وجهين أحدهما من جهة الرواية حيث لم يروونه هكذا ، والآخر من جهة اللفظ ، وهو أنه لو كان كذلك كان يقال : أيقظن ; لأن الخطاب للنساء .

                                                                                                                                                                                  قوله " فرب كاسية " أصل رب للتقليل ، وقد تستعمل للتكثير كما في رب ها هنا ، والتحقيق فيه أنه ليس معناه التقليل دائما خلافا للأكثرين ، ولا التكثير دائما خلافا لابن درستويه وجماعة ، بل ترد للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا ; فمن الأول : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين و” رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة " ، ومن الثاني : قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                  ألا رب مولود وليس له أب



                                                                                                                                                                                  وفيها لغات قد ذكرناها مرة وفعلها الذي تتعلق هي به ينبغي أن يكون ماضيا ويحذف غالبا ، والتقدير : رب كاسية عارية عرفتها ، والمراد أما اللاتي تلبس رقيق الثياب التي لا تمنع من إدراك البشرة معاقبات في الآخرة بفضيحة التعري ، وأما اللابسات للثياب الرقيقة النفيسة عاريات من الحسنات في الآخرة ، فندبهن على الصدقة وحضهن على ترك السرف في الدنيا يأخذن منها أقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك ، وهذه البلوى عامة في هذا الزمان لا سيما في نساء مصر ، فإن الواحدة منهن تتغالى في ثمن قميص إما من عندها أو بتكليفها زوجها حتى تفصل قميصا بأكمام هائلة وذيل سابلة جدا منجرة وراءها أكثر من ذراعين ، وكل كم من كميها يصلح أن يكون قميصا معتدلا ، ومع هذا إذا مشت يرى منها أكثر بدنها من نفس كمها ، فلا شك أنهن ممن يدخلن في هذا الحديث ، وهو من جملة معجزات النبي عليه الصلاة والسلام ; حيث أخبر بذلك قبل وقوعه لما علم بإطلاع الله تعالى إياه أن مثل هذا سيقع في أمته من فتح الخزائن وكثرة الأموال المؤدية إلى مثل هذه الجريمة وغيرها ، ولكن لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بإيقاظ نسائه خص تذكيره ووعظه لهن بهذا الوصف تحذيرا لهن عن مباشرة الإسراف المنهي عنه ، ولأنه من الأمور المؤدية إلى فساد عظيم على ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  وقال الطيبي : " رب كاسية " كالبيان لموجب استيقاظ الأرواح أي لا ينبغي لهن أن يتغافلن ويعتمدن على كونهن أهالي رسول الله عليه الصلاة والسلام أي رب كاسية حلي الزوجية [ ص: 175 ] المشرفة بها ، وهي عارية عنها في الآخرة لا تنفعها إذا لم تضمها مع العمل .

                                                                                                                                                                                  قال تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون

                                                                                                                                                                                  قوله " كاسية " على وزن فاعلة من كسا ، ولكنه بمعنى مكسوة كما في قول الحطيئة :


                                                                                                                                                                                  واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي



                                                                                                                                                                                  قال الفراء : يعني المكسو ، كقولك : ماء دافق وعيشة راضية ; لأنه يقال : كسي العريان ، ولا يقال كسا .

                                                                                                                                                                                  قوله " عارية " بتخفيف الياء ، قال القاضي : أكثر الروايات بخفض عارية على الوصف .

                                                                                                                                                                                  وقال السهيلي : الأحسن عند سيبويه الخفض على النعت ; لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام ، ويجوز الرفع كما تقول : رب رجل عاقل ، على إضمار مبتدأ ، والجملة في موضع النعت أي هي عارية ، والفعل الذي يتعلق به رب محذوف ، واختار الكسائي أن يكون رب اسما مبتدأ والمرفوع خبرها ، ومما يستفاد من هذا الحديث أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل للصلاة ولذكر الله تعالى لا سيما عند آية تحدث أو رؤيا مخوفة ، وجواز قول سبحان الله عند التعجب ، واستحباب ذكر الله بعد الاستيقاظ وغير ذلك .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية