الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 198 ] 250

ثم دخلت سنة خمسين ومائتين

ذكر ظهور يحيى بن عمر الطالبي ومقتله

في هذه السنة ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب المكنى بأبي الحسين ، عليه السلام ، بالكوفة ، وكانت أمه فاطمة بنت الحسين بن عبد الله ( بن إسماعيل بن عبد الله ) بن جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنهم .

وكان سبب ذلك أن أبا الحسين نالته ضيقة ، ولزمه دين ضاق به ذرعا ، فلقي عمر بن فرج ، وهو يتولى أمر الطالبيين ، عند مقدمه من خراسان ، أيام المتوكل ، فكلمه في صلته ، فأغلظ له عمر القول ، وحبسه ، فلم يزل محبوسا حتى كفله أهله ، فأطلق ، فسار إلى بغداد ، فأقام بها بحال سيئة ، ثم رجع إلى سامرا ، فلقي وصيفا في رزق يجرى له ، فأغلظ له وصيف ، وقال : لأي شيء يجرى على مثلك ؟

فانصرف عنه إلى الكوفة ، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان ( الهاشمي ) ، عامل محمد بن عبد الله بن طاهر ، فجمع أبو الحسين جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلوجة ، فكتب صاحب البريد بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ، فكتب محمد إلى أيوب ، وعبد الله بن محمود السرخسي ، عامله على معاون السواد ، يأمرهما بالاجتماع على محاربة يحيى بن عمر ، فمضى يحيى بن عمر إلى بيت مال الكوفة يأخذ الذي فيه ، وكان فيما قيل : ألفي دينار وسبعين ألف درهم ، وأظهر أمره بالكوفة ، وفتح السجون وأخرج من فيها ، وأخرج العمال عنها ، فلقيه عبد بن محمود [ ص: 199 ] السرخسي فيمن معه ، فضربه يحيى بن عمر ضربة على وجهه أثخنه بها ، فانهزم عبد الله ، وأخذ أصحاب يحيى ( ما كان معهم من الدواب والمال .

وخرج يحيى ) إلى سواد الكوفة ، وتبعه جماعة من الزيدية ، وجماعة من أهل تلك النواحي إلى ظهر واسط ، وأقام بالبستان ، فكثر جمعه ، فوجه محمد بن عبد الله إلى محاربته الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في جمع من أهل النجدة والقوة ، فسار إليه ، فنزل في وجهه لم يقدم عليه ، فسار يحيى والحسين في أثره ، حتى نزل الكوفة ولقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس ، قبل دخولها ، فقاتله ، وانهزم عبد الرحمن إلى ناحية شاهي ، ووافاه الحسين ، فنزلا بشاهي .

واجتمعت الزيدية إلى يحيى بن عمر ، ودعا بالكوفة إلى الرضى من آل محمد ، فاجتمع الناس إليه ، وأحبوه ، وتولاه العامة من أهل بغداد ، ولا يعلم أنهم يولون أحدا من بيته سواه ، وبايعه جماعة من الكوفة ممن له تدبير وبصيرة في تشيعهم ، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم .

وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي ، واستراح ، واتصلت بهم الأمداد ، وأقام يحيى بالكوفة يعد العدد ، ويصلح السلاح ، فأشار عليه جماعة من الزيدية ، ممن لا علم لهم بالحرب ، بمعاجلة الحسين بن إسماعيل ، وألحوا عليه ، فزحفت إليه ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب ، ومعه الهيصم العجلي وغيره ، ورجاله من أهل الكوفة ليس لهم علم ولا شجاعة ، وأسروا ليلتهم ، وصبحوا الحسين وهو مستريح ، فثاروا بهم في الغلس ، وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا ، ووضعوا فيهم السيف ، وكان أول أسير الهيصم العجلي ، وانهزم رجاله أهل الكوفة ، وأكثرهم بغير سلاح ، فداستهم الخيل .

وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر ، وعليه جوشن ، قد تقطر به فرسه ، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران ، فقال له : خيرا ، فلم يعرفه ، وظنه رجلا من أهل خراسان لما رأى [ ص: 200 ] عليه الجوشن ، فأمر رجلا ، فنزل إليه ، فأخذ رأسه ، وعرفه رجل كان معه ، وسير الرأس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر ، وادعى قتله غير واحد ، فسير محمد الرأس إلى المستعين ، فنصب بسامرا لحظة ، ثم حطه ، ورده إلى بغداد ; لينصب بها ، فلم يقدر محمد على ذلك; لكثرة من اجتمع من الناس ، فخاف أن يأخذوه ، فلم ينصبه ، وجعله في صندوق في بيت السلاح .

ووجه الحسين بن إسماعيل برؤوس من قتل ، وبالأسرى ، فحبسوا ببغداذ ، وكتب محمد بن عبد الله يسأل العفو عنهم ، فأمر بتخليتهم ، وأن تدفن الرؤوس ولا تنصب ، ففعل ذلك .

ولما وصل الخبر بقتل يحيى جلس محمد بن عبد الله يهنأ بذلك ، فدخل عليه داود بن الهيثم أبو هاشم الجعفري ، فقال : أيها الأمير ! إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، حيا لعزي به ، فما رد عليه محمد شيئا ، فخرج داود وهو يقول :


يا بني طاهر كلوه وبيئا إن لحم النبي غير مري     إن وترا يكون طالبه الله
لوتر نجاحه بالحري

وأكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة ، فمن ذلك قول بعضهم :


بكت الخيل شجوها بعد يحيى     وبكاه المهند المصقول
وبكته العراق شرقا وغربا     وبكاه الكتاب والتنزيل
والمصلى والبيت والركن والحجر     جميعا له عليه عويل
كيف لم تسقط السماء علينا يوم قالوا : أبو الحسين قتيل     وبنات النبي يبدين شجوا موجعات دموعهن همول
قطعت وجهه سيوف الأعادي     بأبي وجهه الوسيم ، الجميل
[ ص: 201 ] إن يحيى أبقى بقلبي غليلا     سوف يودي بالجسم ذاك الغليل
قتله مذكر لقتل علي وحسين ،     ويوم أوذي الرسول
صلوات الإله وقفا عليهم     ما بكى موجع وحنت ثكول



التالي السابق


الخدمات العلمية