الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : والمعنى الثاني : اسم لطريق سالك . يسير بين تمكن وتلون ، لكنه إلى التمكن ما هو . يسلك الحال ، ويلتفت إلى العلم . فالعلم يشغله في حين ، والحال [ ص: 129 ] يحمله في حين . فبلاؤه بينهما : يذيقه شهودا طورا . ويكسوه عبرة طورا ، ويريه غيرة تفرق طورا .

هذا المعنى : هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت عنده .

قوله " اسم لطريق سالك " هو على الإضافة . أي لطريق عبد سالك .

قوله " يسير بين تمكن وتلون " أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون . والتمكن هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالشهود والحال ، والتلون في هذا الموضع خاصة : هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالعلم . فالحال يجمعه بقوته وسلطانه . فيعطيه تمكينا . والعلم بلونه بحسب متعلقاته وأحكامه .

قوله : لكنه إلى التمكن ما هو ؟ يسلك الحال . ويلتفت إلى العلم .

يعني : أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال ويلتفت إلى العلم . فأما إن سلك العلم ، والتفت إلى الحال : لم يكن سالكا إلى التمكن .

فالسالكون ضربان : سالكون على الحال ، ملتفتون إلى العلم . وهم إلى التمكن أقرب ، وسالكون على العلم . ملتفتون إلى الحال . وهم إلى التلون أقرب . هذا حاصل كلامه .

وهذه الثلاثة : هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال ، حتى كأنهما غيران وحزبان ، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ، ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه .

وهذا من تقصير الفريقين ، حيث ضعف أحدهما عن السير في العلم . وضعف الآخر عن الحال في العلم . فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم . فأخذ هؤلاء العلم ، وسعته ونوره . ورجحوه . وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه . وصار الصادق الضعيف من الفريقين : يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر .

فهذا مطيع للحال . وهذا مطيع للعلم . لكن المطيع للحال متى عصى بهالعلم : كان منقطعا محجوبا ، وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون . والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا ، مشتغلا بالوسيلة عن الغاية .

وصاحب التمكين : يتصرفعلمه في حاله . ويحكم عليه فينقاد لحكمه ، [ ص: 130 ] ويتصرف حاله في علمه . فلا يدعه أن يقف معه . بل يدعوه إلى غاية العلم . فيجيبه ويلبي دعوته . فهذه حال الكمل من هذه الأمة . ومن استقرأ أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك .

فلما فرق المتأخرون بين الحال والعلم : دخل عليهم النقص والخلل . والله المستعان يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فكذلك يهب لمن يشاء علما . ولمن يشاء حالا . ويجمع بينهما لمن يشاء . ويخلي منهما من يشاء .

قوله " فالعلم يشغله في حين " أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال . لأن العلم متنوع التعلقات فهو يفرق . والحال يجمع . لأنه يدعوه إلى الفناء . وهناك سلطان الحال .

قوله " والحال يحمله في حين " أي يغلب عليه الحال تارة . فيصير محمولا بقوة الحال وسلطانه على السلوك . فيشتد بحكم الحال ، يعني : وإذا غلبه العلم شغله عن السلوك . وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين : أن العلم عندهم يشغل عن السلوك . ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتا عن العلم .

وأما على ما قررناه - من أن العلم يعين على السلوك ، ويحمل عليه ، ويكون صاحبه سالكا به وفيه - فلا يشغله العلم عن سلوكه . وإن أضعف سيره على درب الفناء . فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء . فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله . بل ولا هو لازم من لوازم الطريق ، وإن كان عارضا من عوارضها . يعرض لغير الكمل ، كما تقدم تقرير ذلك .

فبينا أن الفناء الكامل ، الذي هو الغاية المطلوبة : هو الفناء عن محبة ما سوى الله وإرادته . فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه . وبإرادته ورجائه ، والخوف منه ، والتوكل عليه ، والإنابة إليه : عن إرادة ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه .

وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال . ولا يحول بين العبد وبينه . بل قد يكون في أغلب الأحوال من أعظم أعوانه . وهذا أمر غفل عنه أكثر المتأخرين ، بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه . ولكن لم يخل الله الأرض من قائم به ، داع إليه .

قوله " فبلاؤه بينهما " أي عذابه وألمه : بين داعي الحال وداعي العلم . فإيمانه [ ص: 131 ] يحمله على إجابة داعي العلم ، ووارده يحمله على إجابة داعي الحال . فيصير كالغريم بين مطالبين . كل منهما يطالبه بحقه . وليس بيده إلا ما يقضي أحدهما .

وقد عرفت أن هذا من الضيق . وإلا فمع السعة : يوفي كلا منهما حقه .

قوله " يذيقه شهودا طورا " أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه شهودا طورا ، وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه : هو العلم .

قوله " ويكسوه عبرة طورا " الظاهر : أنه عبرة بالباء الموحدة والعين ، أي اعتبارا بأفعاله ، واستدلالا عليه بها . فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله . فالعلم يكسو صاحبه اعتبارا واستدلالا على الرب بأفعاله .

ويصح أن يكون غيرة ، بالغين المعجمة والياء المثناة من تحت . ومعناه : أن العلم يكسوه غيرة من حجابه عن مقام صاحب الحال . فيغار من احتجاجه عن الحال بالعلم ، وعن العيان بالاستدلال ، وعن الشهود - الذي هو مقام الإحسان - بالإيمان ، الذي هو إيمان بالغيب .

قوله " ويريه غيرة تفرق طورا " هذا بالغين المعجمة ليس إلا ، أي ويريه العلم غيرة تفرقة في أوديته . فيفرق بين أحكام الحال وأحكام العلم . وهو حال صحو وتمييز .

وكأن الشيخ يشير إلى أن صاحب هذا المقام تغار تفرقته من جمعيته على الله . فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم . فإنه لاأشق على النفوس من جمعيتها على الله . فهي تهرب من الله إلى الحال تارة ، وإلى العمل تارة ، وإلى العلم تارة ، هذه نفوس السالكين الصادقين .

وأما من ليس من أهل هذا الشأن : فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات . فأشق ما على النفوس : جمعيتها على الله . وهي تناشد صاحبها : أن لا يوصلها إليه ، وأن يشغلها بما دونه . فإن حبس النفس على الله شديد . وأشد منه : حبسها على أوامره . وحبسها عن نواهيه . فهي دائما ترضيك بالعلم عن العمل ، وبالعمل عن الحال ، وبالحال عن الله سبحانه وتعالى ، وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله . وعلم أن كل ما سواه فهو قاطع عنه .

وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات - كما أشار إليه - : درجة الحال . ودرجة العلم ، ودرجة التفرقة بين الحال والعلم . وهذه الثلاث الدرجات : هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية