الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 194 ] فتمام الدين بالفطرة وتقديرها ، لا بتحويلها وتغييرها ، فإن كل مولود يولد على الفطرة ، والله خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحل الله لهم ، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا . هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم .

فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيبات ، والمحبة تتبع الشهود والإحساس ، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق ، هو وجه الحسن الثابت بالأفعال الحسنة : مأمورها ومباحها ، فإن ذلك كله حسن ، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها ، فما كان من ذلك مشهودا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس ، وما كان غيبا أدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون .

والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع ، فلا بد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر ، كما لا بد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا ، فيعقل الشهادة والغيب ، بمعنى ضبط العلم بجريان ذلك على وجه كلي ثابت في النفس .

لكن زعم أولئك أن العقل يدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءمة باطل ، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا [ ص: 195 ] ملاءمة فيه باطل ، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر ، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة .

وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعا محضا مبنيا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة ، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة ، وبغضه للمسيئين بها ، وهذا هو المعنى الذي يعبرون عنه في حقنا : الملاءمة والمنافرة ، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم .

ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر ، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه ، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي ، وأنكروا أيضا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة .

فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق ، ولكن قصروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل ، وأولئك أثبتوا شيئا من الحكمة والعدل ، ولكن قصروا في ذلك أيضا ، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق ، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه .

لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي ، وقالوا : هذا يخالف الحكمة المعقولة ، كما فعل إبليس وذووه . وغلاة هؤلاء دفعوا أيضا الأمر والنهي وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، كما قال المشركون . وإبليس أغلظ كفرا ، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة . [ ص: 196 ]

وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف ، والتي تبغضها هي المنكر ، فإن المعروف هو إحساس مع محبة ، والإنكار إحساس مع بغضة . فأما ما لم يحس بحال فلا يعرف ولا ينكر ، وما لا يحب ولا يبغض بحال فلا يعرف ولا ينكر . وإذا حدث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعه ، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه ، فإذا سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية