الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره - بقوله : " ولا تباشروهن " لا تجامعوا نساءكم .

وبقوله : " وأنتم عاكفون في المساجد " يقول : في حال عكوفكم في المساجد ، وتلك حال حبسهم أنفسهم على عبادة الله في مساجدهم .

" والعكوف " أصله المقام ، وحبس النفس على الشيء كما قال الطرماح بن حكيم :


فبات بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع

[ ص: 540 ]

يعني بقوله : " عكفا " ، مقيمة ، وكما قال الفرزدق :

ترى حولهن المعتفين كأنهم     على صنم في الجاهلية عكف


وقد اختلف أهل التأويل في معنى " المباشرة " التي عنى الله بقوله : " ولا تباشروهن " . فقال بعضهم : معنى ذلك الجماع دون غيره من معاني " المباشرة " .

ذكر من قال ذلك :

3037 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " - في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه .

3038 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك عن ابن جريج قال : قال لي عطاء : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : الجماع . [ ص: 541 ]

3039 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن الضحاك قال : كانوا يجامعون وهم معتكفون ، حتى نزلت : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " .

3040 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن الضحاك في قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء ، فقال الله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " يقول : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره .

3041 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه .

3042 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال : كان أناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك .

3043 - وحدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، وأخبرهم أن ذلك لا يصلح حتى يقضي اعتكافه .

3044 - حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " يقول : من اعتكف فإنه يصوم ، لا يحل له النساء ما دام معتكفا .

3045 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : الجوار ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء . [ ص: 542 ]

3046 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كان ابن عباس يقول : من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء .

3047 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " ، قال : كان الناس إذا اعتكفوا يخرج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد ، فنهاهم الله عن ذلك .

3048 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : قال ابن عباس كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ، ثم اغتسل ، ثم رجع إلى اعتكافه ، فنهوا عن ذلك قال ابن جريج : قال مجاهد : نهوا عن جماع النساء في المساجد ، حيث كانت الأنصار تجامع ، فقال : " لا تباشروهن وأنتم عاكفون " قال : " عاكفون " الجوار قال ابن جريج : فقلت لعطاء : الجماع المباشرة؟ قال : الجماع نفسه! فقلت له : فالقبلة في المسجد والمسة؟ فقال : أما ما حرم فالجماع ، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد .

3049 - حدثت عن حسين بن الفرج قال : حدثنا الفضل بن خالد قال : حدثنا عبيد بن سليمان عن الضحاك : " ولا تباشروهن " يعني الجماع .

وقال آخرون : معنى ذلك على جميع معاني " المباشرة " من لمس وقبلة وجماع .

ذكر من قال ذلك :

3050 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك بن أنس : لا يمس المعتكف امرأته ، ولا يباشرها ، ولا يتلذذ منها بشيء ، قبلة ولا غيرها . [ ص: 543 ]

3051 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال : المباشرة الجماع وغير الجماع ، كله محرم عليه ، قال : " المباشرة " بغير جماع ، إلصاق الجلد بالجلد .

قال أبو جعفر : وعلة من قال هذا القول : أن الله تعالى ذكره عم بالنهي عن المباشرة ، ولم يخصص منها شيئا دون شيء . فذلك على ما عمه ، حتى تأتي حجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرة دون مباشرة .

وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : الجماع ، أو ما قام مقام الجماع ، مما أوجب غسلا إيجابه . وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين :

إما جعل حكم الآية عاما ، أو جعل حكمها في خاص من معاني المباشرة . وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف ، فلما صح ذلك عنه ، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة البعض دون الجميع .

3052 - حدثنا علي بن شعيب قال : حدثنا معن بن عيسى القزاز قال : أخبرنا مالك . عن الزهري عن عروة وعن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله . [ ص: 544 ]

3053 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة : أن عائشة قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وكان يدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله .

3054 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض ، فأغسله وأرجله .

3055 - حدثنا سفيان قال : حدثنا ابن فضيل ويعلى بن عبيد عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 545 ] يعتكف فيخرج إلي رأسه من المسجد وهو عاكف ، فأغسله وأنا حائض .

3056 - حدثني محمد بن معمر قال : حدثنا حماد بن مسعدة قال : حدثنا مالك بن أنس عن الزهري وهشام بن عروة جميعا ، عن عروة عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه فأرجله وهو معتكف .

فإذ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة [ ص: 546 ] رأسه وهو معتكف ، فمعلوم أن المراد بقوله : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " غير جميع ما لزمه اسم " المباشرة " وأنه معني به البعض من معاني المباشرة دون الجميع . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان مجمعا على أن الجماع مما عني به ، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه ، وذلك كل ما قام في الالتذاذ مقامه من المباشرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية