الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 455 ] فصل في المهايأة المهايأة جائزة استحسانا للحاجة إليه ، إذ قد يتعذر الاجتماع على الانتفاع فأشبه القسمة . ولهذا يجري فيه [ ص: 456 ] جبر القاضي كما يجري في القسمة ، إلا أن القسمة أقوى منه في استكمال المنفعة لأنه جمع المنافع في زمان واحد ، والتهايؤ جمع على التعاقب ، ولهذا لو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ في التكميل . ولو وقعت فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم وتبطل المهايأة لأنه أبلغ ، ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما لأنه لو انتقض لاستأنفه الحاكم فلا فائدة في النقض ثم الاستئناف ( ولو تهايأ في دار واحدة على أن يسكن هذا طائفة وهذا طائفة أو هذا علوها وهذا سفلها جاز ) لأن القسمة على هذا الوجه جائزة فكذا المهايأة ، والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ولهذه لا يشترط فيه التأقيت ( ولكل واحد أن يستغل ما أصابه [ ص: 457 ] بالمهايأة شرط ذلك في العقد أو لم يشترط ) لحدوث المنافع على ملكه ( ولو تهايئا في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما جاز ) ، وكذا هذا في البيت الصغير ( لأن المهايأة قد تكون في الزمان ، [ ص: 458 ] وقد تكون من حيث المكان ) والأول متعين هاهنا ( ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان في محل يحتملهما يأمرهما القاضي بأن يتفقا ) لأن التهايؤ في المكان أعدل وفي الزمان أكمل ، فلما اختلفت الجهة لا بد من الاتفاق ( فإن اختاراه من حيث الزمان يقرع في البداية ) نفيا للتهمة ( ولو تهايئا في العبدين على أن يخدم هذا هذا العبد والآخر الآخر جاز عندهما ) لأن القسمة على هذا الوجه جائزة عندهما جبرا من القاضي وبالتراضي فكذا المهايأة . وقيل عند أبي حنيفة لا يقسم القاضي . وهكذا روي عنه لأنه لا يجري فيه الجبر عنده . [ ص: 459 ] والأصح أنه يقسم القاضي عنده أيضا ، لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت ، بخلاف أعيان الرقيق لأنها تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما تقدم ( ولو تهايئا فيهما على أن نفقة كل عبد على من يأخذه جاز ) استحسانا للمسامحة في إطعام المماليك بخلاف شرط الكسوة لا يسامح فيها ( ولو تهايئا في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا جاز ويجبر القاضي عليه ) وهذا عندهما ظاهر ، لأن الدارين عندهما كدار واحدة .

وقد قيل لا يجبر عنده اعتبارا بالقسمة . وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز التهايؤ فيهما أصلا بالجبر لما قلنا ، وبالتراضي لأنه بيع السكنى بالسكنى ، بخلاف قسمة رقبتهما لأن بيع بعض أحدهما ببعض الآخر جائز . وجه الظاهر أن التفاوت يقل في المنافع فيجوز بالتراضي ويجري فيه جبر القاضي ويعتبر إفرازا أما يكثر التفاوت في أعيانهما فاعتبر مبادلة ( وفي الدابتين لا يجوز التهايؤ على الركوب عند أبي حنيفة وعندهما يجوز ) اعتبارا بقسمة الأعيان .

وله أن الاستعمال يتفاوت بتفاوت الراكبين فإنهم بين حاذق وأخرق . والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة على هذا الخلاف لما قلنا ، بخلاف العبد لأنه يخدم باختياره فلا يتحمل زيادة على طاقته والدابة تحملها . وأما التهايؤ في الاستغلال يجوز في الدار الواحدة في ظاهر الرواية [ ص: 460 ] وفي العبد الواحد والدابة الواحدة لا يجوز . ووجه الفرق هو أن النصيبين ، يتعاقبان في الاستيفاء ، والاعتدال ثابت في الحال . والظاهر بقاؤه في العقار وتغيره في الحيوان لتوالي أسباب التغير عليه فتفوت المعادلة . ولو زادت الغلة في نوبة أحدهما عليها في نوبة الآخر يشتركان في الزيادة ليتحقق التعديل ، بخلاف ما إذا كان التهايؤ على المنافع فاستغل أحدهما في نوبته زيادة ، لأن التعديل فيما وقع عليه التهايؤ حاصل وهو المنافع فلا تضره زيادة الاستغلال من بعد ( والتهايؤ على الاستغلال في الدارين جائز ) أيضا في ظاهر الرواية لما بينا ، ولو فضل غلة أحدهما لا يشتركان فيه بخلاف الدار الواحدة . والفرق أن في الدارين معنى التمييز ، والإفراز راجح لاتحاد زمان الاستيفاء ، وفي الدار الواحدة يتعاقب الوصول فاعتبر قرضا وجعل كل واحد في نوبته كالوكيل عن صاحبه فلهذا يرد عليه حصته من الفضل ، وكذا يجوز في العبدين عندهما اعتبارا بالتهايؤ في المنافع ، ولا يجوز عنده لأن التفاوت في أعيان الرقيق أكثر منه من حيث الزمان في العبد الواحد فأولى أن يمتنع الجواز ، [ ص: 461 ] والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة ، ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا ، ولأن الظاهر هو التسامح في الخدمة والاستقصاء في الاستغلال فلا يتقاسمان ( ولا يجوز في الدابتين عنده خلافا لهما ) والوجه ما بيناه في الركوب ( ولو كان نخل أو شجر أو غنم بين اثنين فتهايئا على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يستثمرها أو يرعاها ويشرب ألبانها لا يجوز ) لأن المهايأة في المنافع ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها ، وهذه أعيان باقية ترد عليها القسمة عند حصولها . والحيلة أن يبيع حصته من الآخر ثم يشتري كلها بعد مضي نوبته أو ينتفع باللبن بمقدار معلوم استقراضا لنصيب صاحبه ، إذ قرض المشاع جائز .

التالي السابق


( فصل في المهايأة )

لما فرغ من بيان أحكام قسمة الأعيان شرع في بيان أحكام قسمة الأعراض التي هي المنافع ، وأخرها عن قسمة الأعيان لكون الأعيان أصلا والمنافع فرعا عليها .

ثم إن المهايأة في اللغة : مفاعلة مشتقة من الهيئة وهي الحالة الظاهرة للمتهيئ للشيء ، وإبدال الهمزة ألفا لغة فيها ، والتهايؤ تفاعل منها وهو أن يتواضعوا على أمر فيتراضوا به ، وحقيقته أن كلا منهم يرضى بحالة واحدة ويختارها . يقال هايأ فلان فلانا وتهايأ القوم . وفي عرف الفقهاء : هي عبارة عن قسمة المنافع ، كذا في الشروح ( قوله المهايأة جائزة استحسانا للحاجة إليه ) قال الشراح : والقياس يأبى جوازها ، لأنها مبادلة المنفعة بجنسها ، إذ كل واحد من [ ص: 456 ] الشريكين ينتفع في نوبته بملك شريكه عوضا عن انتفاع شريكه بملكه في نوبته ا هـ أقول : فيه شيء ، وهو أن ما ذكروا في وجه إباء القياس جوازها إنما يتم في صورة التهايؤ من حيث الزمان بأن ينتفع أحدهما بعين واحد مدة وينتفع الآخر به مدة أخرى ، لا في صورة التهايؤ من حيث المكان كما إذا تهايأ في دار على أن يسكن أحدهما ناحية والآخر ناحية أخرى منها ، فإن التهايؤ في هذه الصورة إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ، ولهذا لا يشترط فيه التأقيت كما سيجيء في الكتاب عن قريب .

والظاهر من تقريراتهم كون جواز التهايؤ على الإطلاق أمرا استحسانيا مخالفا للقياس ، وما ذكروا في بيانه لا يفي بذلك كما ترى ( قوله إلا أن القسمة أقوى منه في استكمال المنفعة ، لأنه جمع المنافع في زمان واحد والتهايؤ جمع على التعاقب ) أقول : في كلية هذا التعليل نظر ، إذ قد صرحوا بأن التهايؤ قد يكون من حيث الزمان وقد يكون من حيث المكان ، وسيأتي في ذلك الكتاب أيضا ، والجمع على التعاقب إنما هو في التهايؤ من حيث الزمان ، وأما في التهايؤ من حيث المكان فيتحقق جمع المنافع في زمان واحد كما سنحققه . نعم إن القسمة في الأعيان أقوى بلا ريب من مطلق التهايؤ الذي هو قسمة المنافع لحصول التملك في الأولى من حيث الذات والمنفعة ، وفي الثاني من حيث المنفعة فحسب ( قوله والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ) [ ص: 457 ]

ولهذا لا يشترط فيه التأقيت ، هذا إيضاح أنه إفراز ، لأنه لو كان مبادلة كان تمليك المنافع بالعوض فيلحق بالإجارة حينئذ فيشترط التأقيت ، كذا في الشرح . أقول : لقائل أن يقول : إن أريد أنه لو كان مبادلة من كل وجه كان ملحقا بالإجارة فيشترط فيه التأقيت كما يشترط في الإجارة فهو مسلم ، لكن لا يلزم من عدم كونه مبادلة من كل وجه كونه إفرازا من وجه حتى يثبت كونه إفرازا لجميع الأنصباء لجواز أن يكون إفرازا من وجه ومبادلة من وجه بأن يكون إفرازا لنصيب كل واحد منهما من المنفعة في الناحية التي يسكن هو فيها ومبادلة لنصيبه منها في الناحية الأخرى بنصيب الآخر في الناحية التي يسكن هو فيها ، كما قالوا في قسمة الأعيان على ما مر في صدر كتاب القسمة أنها لا تعرى عن المبادلة والإفراز لأن ما يجتمع لأحدهما ، بعضه كان له وبعضه كان لصاحبه فهو يأخذه عوضا عما بقي من حقه في نصيب صاحبه فكان مبادلة وإفرازا ، وإن أريد أنه لو كان مبادلة ولو بوجه كان ملحقا بالإجارة فيشترط فيه التأقيت كما يشترط في الإجارة فهو ممنوع ، لأن الإجارة مبادلة المنفعة بالعوض من كل وجه فلا يلزم من اشتراط التأقيت فيها اشتراطه فيما هو إفراز من وجه ومبادلة من وجه .

قال صاحب العناية في تعليل قول المصنف والتهايؤ في هذا الوجه إفراز لجميع الأنصباء ، فإن القاضي يجمع جميع منافع أحدهما في بيت واحد بعد أن كانت شائعة في البيتين ، وكذلك في حق الآخر انتهى . وقد سبقه إلى هذا التوجيه تاج الشريعة في شرح هذا المقام ، أقول : فيه نظر ، لأن جميع المنافع الشائعة في البيتين في بيت واحد محال لعدم جواز انتقال العوض من محل إلى محل آخر كما تقرر في محله فكيف يتمكن القاضي من جمعها . فإن قلت : ليس المراد أن القاضي يجمعها حقيقة حتى يتوجه ما ذكر ، بل المراد أن القاضي يعتبر جمعها لئلا يكون ذلك التهايؤ مبادلة فيشترط فيه التأقيت كما أشار إليه المصنف بقوله ولهذا لا يشترط فيه التأقيت . قلت : اشتراط التأقيت فيه ليس بأصعب من اعتبار المحال متحققا حتى يرتكب الثاني لأجل دفع الأول ، وأيضا اعتبار المحال متحققا ليس بأولى وأسهل من عدم اعتبار شرط الإجارة هاهنا للضروة حتى يرتكب الأول دون الثاني وترك كثير مما يعتبر في الشرع لأجل الضرورة شائع في قواعد الشرع : ألا يرى إلى ما ذكروا فيما مر آنفا من أن القياس يأبى جواز التهايؤ لأنه مبادلة المنفعة بجنسها وهي لا تجوز عندنا على ما تقرر في كتاب الإجارات لكنا تركنا القياس فيه لضرورة حاجة الناس إليه ، على أن لزوم اشتراط التأقيت فيه على تقدير عدم اعتبار جمع الأنصباء في بيت واحد ممنوع ، لأنه إنما يلزم ذلك أن لو كان التهايؤ في الوجه المذكور مبادلة من كل وجه .

وأما إذا كان إفرازا من وجه ومبادلة من وجه فلا يلزم ذلك لأن اشتراط التأقيت فيما هو مبادلة من كل وجه كما قررناه من قبل ( قوله ولكل واحد أن يستغل ما أصابه بالمهايأة شرط ذلك في العقد أو لم يشترط لحدوث المنافع على ملكه ) قال تاج الشريعة : فإن قلت : المنافع في العارية تحدث على ملك المستعير ومع هذا لا يملك الإجازة قلت لجواز أن يسترده المعير قبل مضي المدة فلا فائدة انتهى . أقول : جواز الاسترداد قبل مضي المدة هاهنا أيضا متحقق ، إذ قد مر في الكتاب أنه لو وقعت المهايأة فيما يحتمل القسمة ثم طلب أحدهما القسمة يقسم وتبطل المهايأة لكون القسمة أبلغ ، فمع احتمال أن يطلب الآخر القسمة وتبطل المهايأة قبل مضي المدة كيف يملك كل واحد منهما أن يستغل ما أصابه بالمهايأة بناء على حدوث المنافع على ملكه ، ولا فائدة في الاستغلال على تقدير طلب الآخر القسمة قبل مضي المدة كما في صورة الاستعارة ( قوله ولو تهايأ في عبد واحد على أن يخدم هذا يوما وهذا يوما جاز وكذا هذا في البيت الصغير لأن المهايأة قد تكون في الزمان [ ص: 458 ] وقد تكون من حيث المكان . والأول متعين هاهنا ) قال صاحب العناية : ولم يذكر أن هذا إفراز أو مبادلة لأنه عطفه على صورة الإفراز فكان معلوما انتهى . أقول : ليس هذا بسديد لأنه إن أراد أنه قد علم من عطفه على صورة الإفراز أنه أيضا إفراز بناء على أن المعطوف في حكم المعطوف عليه فليس بصحيح ، لأن مجرد العطف لا يقتضي اشتراك المعطوفين في جميع الأحكام ; ألا يرى أن كثيرا من المسائل المتباينة في الأحكام يعطف بعضها على بعض ، على أن التهايؤ في العبد الواحد وفي البيت الصغير تهايؤ من حيث الزمان ، ولا مجال في مثل ذلك لأن يكون إفرازا كما يفهم من أدلة المسائل الآتية سيما من الفرق بين التهايؤ على الاستغلال في دار واحدة والتهايؤ على الاستغلال في الدارين ، وإن أراد أنه قد علم من عطفه على صورة الإفراز أنه ليس إفرازا بناء على لزوم التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فليس بصحيح أيضا ، إذ يكفي في العطف المغايرة بينهما بحسب الذات ، ولا يلزم فيه المغايرة بينهما في جميع الأوصاف والأحكام حتى يتم ما ذكروه .

وبالجملة لا دلالة للعطف هاهنا على كون المذكور بطريق العطف من قبيل الإفراز والمبادلة ، فالتشبث بحديث العطف هاهنا مما لا معنى له أصلا كما لا يخفى ثم قال صاحب العناية : فإن كانت المهايأة في الجنس الواحد والمنفعة متفاوتة تفاوتا يسيرا كما في الثياب والأراضي تعتبر إفرازا [ ص: 459 ] من وجه ، مبادلة من وجه حتى لا ينفرد أحدهما بهذه المهايأة ، وإذا طلبها أحدهما ولم يطلب الآخر قسمة الأصل أجبر عليها ، وقيل تعتبر إفرازا من وجه ، عارية من وجه ، لأنها لو كانت مبادلة لما جازت في الجنس الواحد لأنه يكون مبادلة المنفعة بجنسها وأنه يحرم ربا النساء والأول أصح لأن العارية ليس فيها عوض وهذا بعوض وربا النساء ثابت عند أحد وصفي العلة بالنص على خلاف القياس فيما هو مبادلة في الأعيان من كل وجه فلا يتعدى إلى غيره انتهى أقول : هذا الذي ذكره مأخوذ من الذخيرة والمبسوط ، وقد ذكر في النهاية ومعراج الدراية أيضا بنوع تفصيل ولكن فيه بحث ، وهو أنه قد مر في كتاب الإجارات أن إجارة المنافع بجنسها كإجارة السكنى بالسكنى واللبس باللبس والركوب بالركوب غير صحيحة عندنا .

وقالوا في تعليل ذلك : إن الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة . وقال المصنف هناك : وإليه أشار محمد رحمه الله تعالى فلو كان ربا النساء عند وجود أحد وصفي العلة وهي القدر مع الجنس مختصا بمورد النص وهو البيع غير متعد إلى غيره لما تم . استدل أئمتنا في الإجارات على عدم صحة إجارة المنافع بجنسها بربا النساء . نعم لنا دليل آخر على عدم صحة ذلك كما مر أيضا في الكتاب هناك لكن الكلام في الدليل الأول الذي ارتضاه فحول الفقهاء قاطبة حتى أشار إليه محمد رحمه الله تعالى وقال صاحب العناية بعد كلامه السابق : وإن كانت في الجنس المختلف كالدور والعبيد تعتبر مبادلة من كل وجه حتى لا تجوز بدون رضاهما ، لأن المهايأة قسمة المنافع وقسمة المنافع معتبرة بقسمة الأعيان وقسمة الأعيان اعتبرت مبادلة من كل وجه في الجنس المختلف ، فكذا قسمة المنافع انتهى ، أقول : وهذا أيضا مأخوذ من الكتب المذكورة ولكنه محل بحث أيضا .

أما أولا فلأنه قد ذكر في الكتاب من قبل أن التهايؤ من حيث المكان إفراز لجميع الأنصباء لا مبادلة ، ولهذا لا يشترط فيه التأقيت . ولا يخفى أن التهايؤ في الجنس المختلف إنما يتصور بأن انتفع أحد الورثة بأحد الأجناس والآخر بالآخر كما في الدور والعبيد فيصير من قبيل التهايؤ [ ص: 460 ] من حيث المكان فكيف يتم القول بأن المهايأة إن كانت في الجنس المختلف تعتبر مبادلة . وأما ثانيا فلأنه لو اعتبرت المهايأة في الجنس المختلف مبادلة من كل وجه لكانت المهايأة في الدور كإجارة السكنى بالسكنى وفي العبيد كإجارة الخدمة بالخدمة . ومثل ذلك لا يجوز عندنا كما تقرر في الإجارات ، اللهم إلا أن يكون مجموع قوله كالدور والعبيد مثالا واحدا ، فالمراد مثل أن يتهايأ على أن يسكن أحدهما الدور ويستخدم الآخر العبيد لكنه بعيد جدا سيما في مقابلة قوله من قبل كما في الثياب والأراضي .

وأما ثالثا فلأن قوله وقسمة الأعيان اعتبرت مبادلة من كل وجه ممنوع ، إذ قد تقرر في صدر كتاب القسمة أن قسمة الأعيان مطلقا لا تعرى عن معنى الإفراز ، ومعنى المبادلة إلا أن معنى الإفراز هو الظاهر في ذوات الأمثال ، ومعنى المبادلة هو الظاهر في غير ذوات الأمثال ، غير أن ذلك الغير إن كان من جنس واحد أجبر القاضي على القسمة عند طلب أحد الشركاء ، وإن كان أجناسا مختلفة لا يجبر القاضي على قسمتها لتعذر المعادلة باعتبار فحش التفاوت في المقاصد ، اللهم إلا أن يقال : المراد بما ذكر هاهنا أن قسمة الأعيان في الجنس المختلف اعتبرت مبادلة من كل وجه في الحقيقة فلا ينافي ما تقرر في صدر الكتاب ، لكن فيه ما فيه فتأمل ( قوله ووجه الفرق أن النصيبين يتعاقبان في الاستيفاء والاعتدال ثابت في الحال ، والظاهر بقاؤه في العقار وتغيره في الحيوان لتوالي أسباب التغير عليه فتفوت المعادلة ) قال في العناية : لأن الاستغلال إنما يكون بالاستعمال ، والظاهر أن عمله في الزمان الثاني لا يكون كما كان في الأول ، لأن القوى الجسمانية متناهية انتهى .

أقول : لقائل أن يقول : مقتضى هذا الوجه أن لا يجوز التهايؤ في العبد الواحد على نفس المنافع كما لا يجوز على الاستغلال ، إذ الظاهر أن منافعه التي هي أعماله لا تكون في الزمان الثاني كما كانت في الأول لتناهي القوى الجسمانية فتفوت المعادلة ، مع أن التهايؤ في العبد الواحد على منافعه جائز بالاتفاق كالتهايؤ على منفعة البيت الصغير كما مر من قبل في الكتاب . ثم أقول : يمكن أن يجاب عنه بأن التهايؤ في العبد على الخدمة إنما جوز ضرورة أنها لا تبقى فيتعذر قسمتها ، ولا ضرورة في الغلة لأنها أعيان باقية ترد القسمة عليها فافترقا ، وسيجيء في الكتاب عين هذا الفرق بين المنفعة والغلة فتبصر ( قوله ولا يجوز عنده لأن التفاوت في أعيان الرقيق أكثر منه من حيث الزمان في العبد الواحد فأولى أن يمتنع الجواز ) وعورض بأن معنى الإفراز والتمييز راجع في غلة العبدين ، لأن كل واحد منهما [ ص: 461 ] يصل إلى الغلة في الوقت الذي يصل إليها فيه صاحبه فكان كالمهايأة في الخدمة . وأجبت بأن التفاوت يمنع من رجحان معنى الإفراز ، بخلاف الخدمة لما بينا ومن وجه الأصح أن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت ، كذا في العناية أقول : في الجواب نظر .

إذ قد مر في بيان فوت المعادلة في التهايؤ في العبد الواحد على الاستغلال أن الاستغلال إنما يكون على حسب الاستعمال . فلما قل التفاوت في المنافع من حيث الخدمة لزم أن يقل التفاوت في الغلة أيضا بالضرورة . فلم يظهر وجه المخالفة بين المسألتين ولعل هذا هو السر في أن جماعة من الشروح ذكروا مضمون المعارضة المزبورة بطريق بيان الفرق بين المسألتين من قبل الإمامين وعزوه إلى المبسوط ولم يتعرضوا للجواب عنه أصلا فتدبر ( قوله والتهايؤ في الخدمة جوز ضرورة ولا ضرورة في الغلة لإمكان قسمتها لكونها عينا ) هذا جواب عن قولهما اعتبارا بالتهايؤ في المنافع ، وبيان الضرورة ما سيذكره بعد هذا أن المنافع لا تبقى فيتعذر قسمتها . قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : علل التهايؤ في المنافع من قبل بقوله لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت ، وعلله هاهنا بضرورة تعذر القسمة ، وفي ذلك توارد علتين مستقلتين على حكم واحد بالشخص وهو باطل .

ويمكن أن يجاب عنه بأن المذكور من قبل تتمة هذا التعليل ، لأن علة الجواز تعذر القسمة وقلة التفاوت جميعا ، لأن كل واحد منهما علة مستقلة ، إلى هنا كلامه أقول : لا السؤال بشيء ولا الجواب . أما الأول فلأن الباطل إنما هو توارد العلتين المستقلتين على الواحد بالشخص على طريق الاجتماع لا تواردهما عليه على سبيل البدل كما تقرر في موضعه ، واللازم فيما نحن فيه هو الثاني دون الأول ، إذ لا يخفى أن المقصود من إيراد العلل المتعددة في أمثال هذا المقام هو التنبيه على أن كل واحدة منهما [ ص: 462 ] تصلح لإفادة المدعي بالاستقلال بدلا عن الأخرى ، وفائدة ذلك بيان طرق مختلفة موصلة إلى المطلوب ليسلك الطالب أي طريق شاء . وأما الثاني فلأن الظاهر من تعليل المصنف بإحدى العلتين المذكورتين في كل من الموضعين المتفرقين أن يكون كل واحدة منهما علة مستقلة ، وإلا يلزم أن لا يفيد شيء منها المدعي في مقامه ضرورة عدم حصول المطلوب بجزء العلة ، على أن استقلال كل واحدة منهما في الإفادة بين ، أما قلة التفاوت فلأن القليل في حكم العدم في عامة أحكام الشرع وأما ضرورة تعذر القسمة فلأن الضرورات تبيح المحظورات على ما عرف ، وليت شعري ما ذا يصنع الشارح المزبور في قول المصنف فيما بعد : ولأن الظاهر هو التسامح في الخدمة إلى آخره وقد اعترف بأنه وجه آخر لإبطال القياس ، وكذا في نظائر ذلك من الأدلة المتعددة المذكورة في كثير من المسائل ، فهل يجعل كل واحد منهما جزء العلة لا علة مستقلة ، والله الموفق للصواب .




الخدمات العلمية