الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              كتابه إلى عمر بن عبد العزيز

              حدثنا أبو حامد بن جبلة ، قال : ثنا أبو العباس السراج ، قال : ثنا عبيد الله بن حرب بن جبلة ، ثنا حمزة بن رشيد أبو علي ، قال : حدثني عمرو بن عبد الله القرشي ، عن أبي حميد الشامي ، قال : كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز . وحدثني محمد بن بدر ، قال : ثنا حماد بن مدرك ، قال : ثنا يعقوب بن سفيان ، قال : ثنا محمد بن يزيد الليثي ، قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : ثنا إبراهيم ، عن عبد الله بن أبي الأسود ، عن الحسن ، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز - والسياق لأبي حميد الشامي - : اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به ، والندم على الشر يدعو إلى [ ص: 135 ] تركه ، وليس ما يفنى وإن كان كثيرا يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا ، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية ، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها ، وغرت بغرورها ، وقتلت أهلها بأملها ، وتشوفت لخطابها ، فأصبحت كالعروس المجلوة ، العيون إليها ناظرة ، والنفوس لها عاشقة ، والقلوب إليها والهة ، ولألبابها دامغة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة . فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر ، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع ، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر ، فأبت القلوب لها إلا حبا ، وأبت النفوس بها إلا ضنا ، وما هذا منا لها إلا عشقا ، ومن عشق شيئا لم يعقل غيره ، ومات في طلبه أو يظفر به ، فهما عاشقان طالبان لها ؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد ، فشغل بها لبه ، وذهل فيها عقله ، حتى زلت عنها قدمه ، وجاءته أسر ما كانت له منيته ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته ، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته . واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه ، وحسرة الموت بغصته ، غير موصوف ما نزل به . وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته ، فذهب بكربه وغمه لم يدرك منها ما طلب ، ولم يرح نفسه من التعب والنصب . خرجا جميعا بغير زاد ، وقدما على غير مهاد .

              فاحذرها الحذر كله ؛ فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل ، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها ، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك ، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه ، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلا عليه انقلبت به ، [ ص: 136 ] فالسار فيها غار ، والنافع فيها غدا ضار ، وصل الرخاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء ، سرورها مشوب بالحزن ، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن ، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق ، ولا تنظر نظر العاشق الوامق ، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المغرور الآمن ، لا يرجع ما تولى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت فيها فينتظر .

              فاحذرها فإن أمانيها كاذبة ، وإن آمالها باطلة ، عيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر . إما نعمة زائلة ، وإما بلية نازلة ، وإما مصيبة موجعة ، وإما منية قاضية ، فلقد كدت عليه المعيشة إن عقل ، وهو من النعماء على خطر ، ومن البلوى على حذر ، ومن المنايا على يقين ؛ فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر ، ولم يضرب لها مثلا ، ولم يأمر فيها بزهد ؛ لكانت الدار قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر ، وفيها واعظ . فما لها عند الله عز وجل قدر ، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر ، ولا تزن عند الله تعالى مقدار حصاة من الحصا ، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى ، ولا خلق خلقا فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا ، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتا لها ، ولقد عرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها ، وما منعه من القبول لها ، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه ، وصغر شيئا فصغره ، ووضع شيئا فوضعه ، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها ، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه ، وأن يرفع ما وضع مليكه .

              ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثوابا للمطيعين ، وأن يجعل عقوبتها عذابا للعاصين . فأخرج ثواب الطاعة منها وأخرج عقوبة المعصية عنها . وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى [ ص: 137 ] زواها عن أنبيائه وأحبائه اختبارا ، وبسطا لغيرهم اعتبارا واغترارا ؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها ، ونسي ما صنعه بمحمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وموسى المختار - عليه السلام - بالكلام له ومناجاته ، فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فشد الحجر على بطنه من الجوع ، وأما موسى - عليه السلام - فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هذاله ، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاما يأكله من جوعه . ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه ؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته . وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة ، كان يقول : أدمي الجوع وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ودابتي رجلي ، وسراجي بالليل القمر ، وصلايتي في الشتاء الشمس ، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام . أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني . ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام ، فليس دونهم في العجب . يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم أهله الخشكار والناس الدرمك ، فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكيا حتى يصبح ، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب . كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل ، ويصغرون ما صغر الله تعالى ، ويزهدون فيما زهد . ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم ، وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر ، وصبروا في مدة الأجل القصير ، عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير ، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها ، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها ؛ ثم ألزموا أنفسهم الصبر ، أنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها ؛ فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي [ ص: 138 ] الروح ، ومكن اليوم ، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتن ريحها فكل من مر بها أمسك على أنفه منها ، فهم يصيبون منها لحال الضر ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن ، فغربت عنهم وكانت هذه منزلتها من أنفسهم ، فهم يعجبون من الآكل منها شبعا ، والمتلذذ بها أشرا . ويقولون في أنفسهم : أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل ، أما يجدون ريح النتن ؟ وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة ، غير أن أقواما استعجلوا الصبر فلا يجدون ريح النتن ، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه ، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده ، وقد يكفي العاقل منهم أنه من مات عنها وترك مالا كثيرا سره أنه كان فيها فقيرا ، أو شريفا أنه كان فيها وضيعا ، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلى ، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقة . وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة ، وأشدهم فيها فاقة ، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها .

              والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئا وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب ، غير أنه إذا أخذ منها شيئا لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه ، لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفي ، حذر السؤال وكراهية لشدة الحساب ، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام ؛ يوم مضى لا ترجوه ، ويوم أنت فيه ينبغي أن تغتنمه ، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا ؟ ولا تدري لعلك تموت قبله .

              فأما أمس فحكيم مؤدب ، وأما اليوم فصديق مودع ، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته ، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة ، وغدا أيضا في يديك منه أمله . فخذ الثقة بالعمل ، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل ، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده ، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن [ ص: 139 ] تجمع في يومك ما يكفيك أيامك ، هيهات كثر الشغل وزاد الحزن وعظم التعب وأضاع العبد العمل بالأمل .

              ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك ، واقتصرت لهم يومك ، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط ، ودعاك إلى المزيد في الطلب ، ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين ، ساعة ماضية ، وساعة آتية ، وساعة أنت فيها . فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ، ولا لبلائهما ألما . وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار . وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك ، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك ، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك . وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه ، فجاءك الآخر بعده ، فقال : إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه ، ويغفر لك ما صنعت ، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك فقد ظفرت بخلف منه إن عقلت ، فدارك ما قد أضعت . وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك .

              إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل ، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوما بقي من - عمر صاحبه ، فلا تبع اليوم وتعدله من الدنيا بغير ثمنه ، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيما لما في يديك منك وهو لك ، فلعمري لو أن مدفونا في قبره قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها ، تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك ، فقد كنت وليس لك هم غيرهم أحب إليك أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك ، وما كان ليجمع مع اليوم شيئا إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيما له ، بل لو اقتصر على ساعة خيرها وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك ليكون لغيره ، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه ، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة ، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة ، نفعنا الله وإياك بالموعظة ، ورزقنا وإياك [ ص: 140 ] خير العواقب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية