الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل في الإمامة ، السنة أن يؤم القوم أقرؤهم . ثم أفقههم ، ثم أسنهم ، ثم أقدمهم هجرة ، ثم أشرفهم . ثم الأتقى ، ثم من تقع له القرعة ، وصاحب البيت ، وإمام المسجد أحق بالإمامة إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان . والحر أولى من العبد ، والحاضر أولى من المسافر . والبصير أولى من الأعمى في أحد الوجهين

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل في الإمامة ( السنة أن يؤم القوم أقرؤهم ) هذا ظاهر " المذهب " ، وجزم به معظم الأصحاب لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم ، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم . رواه أحمد ، ومسلم ، وعن أبي مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ، وفي لفظ لمسلم : ولا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه . رواه مسلم ، قال الطبري : لما استخلف عليه السلام أبا بكر بعد قوله : يؤم القوم أقرؤهم ، صح أن أبا بكرا أقرؤهم وأعلمهم ; لأنهم لم يكونوا يتعلمون شيئا من القرآن حتى يتعلموا معانيه ، وما يراد به ، كما قال ابن مسعود : كان الرجل منا إذا علم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن ، والعمل بهن . لكن أجاب أحمد عن حديث أبي بكر في تقديمه مع تقدم قوله : أقرؤكم أبي أراد به الخلافة ، ومراده بالأقرأ أجوده كما جزم به في " الوجيز " ، وقدمه في " الفروع " ; لقوله عليه السلام : من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ، ومن قرأ ولحن فيه فله بكل حرف حسنة رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح ، ولأنه أعظم في الأجر ، وقيل : يقدم [ ص: 61 ] الأكثر قرآنا ; لقوله عليه السلام ليؤمكم أكثركم قرآنا ، وعليهما إذا عرف واجب الصلاة ، وما يحتاجه فيها ، وقيل : وسجود السهو ، وقيل : وجاهل يأتي بها عادة ، والمنصوص خلافه ، وعنه : يقدم الأفقه عليه ، اختاره ابن عقيل إذا كان يقرأ ما يكفي في الصلاة ; لأنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري ما يفعل فيه إلا بالفقه فقدم كالإمامة الكبرى والحكم ، ( ثم أفقههم ) للخبر السابق ، فإن اجتمع فقيهان قارئان ، وأحدهما أفقه أو أقرأ قدم ، فإن كانا قارئين قدم أجودهما قراءة ، وأكثرهما ، ويقدم قارئ لا يعرف أحكام صلاته على فقيه أمي ، فإن اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام الصلاة قدم ; لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاة ( ثم أسنهم ) اختاره الخرقي ، وذكر السامري ، وصححه في " المذهب " ، وفي " الرعاية " أنه أشهر ، وجزم به في " الوجيز " ; لقوله عليه السلام لمالك بن الحويرث : إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم متفق عليه ، ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء ( ثم أقدمهم هجرة ) للخبر ، ومعناه أن يكون أحدهما أسبق هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وقيل : بآبائه ، وقيل : بكل منهما ; لأنه قربة وطاعة فقدم به ، وسبق الإسلام كالهجرة ، قاله في " الشرح " ، و " الفروع " ( ثم أشرفهم ) لقوله عليه السلام الأئمة من قريش ، وقال : قدموا قريشا ، ولا تقدموها ، والنسب يكون بعلو النسب ، ذكره في " المغني " ، و " الشرح " فعليه تقدم بنو هاشم ثم قريش ، وظاهر كلام أحمد : يقدم الأقدم هجرة ثم الأسن ثم الأشرف ، وقدمه في " المحرر " ، وقال الخرقي : يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة ، وقدمه في " الفروع " ، وقال ابن حامد : الأشرف ثم الأقدم هجرة ثم الأسن [ ص: 62 ] عكس ما في المتن ( ثم الأتقى ) وجزم به في " الوجيز " ; لأنه أقرب إلى الإجابة ، وقد ورد : إذا أم الرجل القوم ، وفيهم من هو خير منه ، لم يزالوا في سفال . ذكره الإمام أحمد في رسالته ، وقال جماعة : ثم الأتقى ، والأورع ، وقيل : يقدمان على الأشرف ، وذكره في " الشرح " احتمالا ; لقوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ] ولأن شرف الدين خير من شرف الدنيا ( ثم من تقع له القرعة ) ذكره في " المذهب " ، و " التلخيص " ، وجزم به في " الوجيز " ; وهو رواية ; لأن سعد بن أبي وقاص أقرع بين الناس في الأذان يوم القادسية فالإمامة أولى ، ولأنهم تساووا في الاستحقاق ، وتعذر الجمع فأقرع بينهم كسائر الحقوق ، ثم اختيار الجماعة في رواية ، وقيل : يقدم بعمارة المسجد ، وجزم به في " الفصول " ، فإن اختلفت الجماعة عمل بالأكثر ، فإن استووا قيل : يقرع ، وقيل : يختار السلطان الأولى ، وقيل : يقدم بحسن الخلق ، وفاقا لأبي حنيفة ، ومالك ، وقيل : والخلقة وفاقا لمالك ، وزاد : بحسن اللباس ، وهذا كله على سبيل الاستحباب بغير خلاف علمناه . ( وصاحب البيت ) بشرطه ( وإمام المسجد أحق بالإمامة ) من الكل بغير خلاف نعلمه ، لما روي أن ابن عمر أتى أرضا له عندها مسجد يصلي فيه مولى له ، فصلى ابن عمر معهم ، فسألوه أن يؤمهم فأبى ، وقال : صاحب المسجد أحق ، ولأن في تقديم غيره افتئاتا ، وكسرا لقلبه ، وقال ابن عقيل : إنما يكون أولى مع التساوي ، والأول أولى ، ويستحب تقديمهما للأفضل منهما ، ويستثنى من الأولى أن السيد يقدم على عبده في بيت العبد لفعل الصحابة ، رواه صالح ، ولعموم ولايته ( إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان ) فهو أولى في المنصوص ; لأنه [ ص: 63 ] عليه السلام أم عتبان بن مالك ، وأنسا في بيوتهما ، ولأن له ولاية عامة ، وكذا الوالي من قبله زاد في " الكافي " : ونائبهما ، واقتضى ذلك أن السلطان مقدم على خليفته ، وذكر أبو الخطاب وجها أنهما يقدمان عليه لعموم قوله عليه السلام من زار قوما فلا يؤمهم ، ولأن ولاية صاحب البيت والمسجد خاصة ، وإمامة السلطان عامة ، ولذلك لا يتصرف السلطان إلا بالغبطة كالوكيل ، بخلاف المالك فافترقا ، وقال ابن حامد : صاحب البيت وحده أحق بها ; وهو أولى . فرع : معير ومستأجر أولى في الأصح من مستعير ، ومؤجر ، وفي " الوجيز " : وساكن البيت أحق ، ومقتضاه أن المستعير مقدم على المالك ، وفيه نظر على المذهب ( والحر أولى من العبد ) ذكره الأصحاب ; لأنه أكمل في أحكامه ، وأشرف ، ويصلح إماما في الجمعة والعيد ، ولو تبعض ، وعنه : العبد أولى إن كان أفضل أو أدين لما ذكرناه ، واقتضى ذلك صحة إمامته في قول الجمهور ; لأن عائشة كان يؤمها غلام لها ، وفيه شيء ، ولعموم يؤم القوم أقرؤهم وصلى ابن مسعود ، وحذيفة ، وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد ، رواه صالح في مسائله ، ولأنه من أهل الأذان فصح أن يكون إماما كالحر ، فعلى هذا لا يكره ، جزم به غير واحد ( والحاضر أولى من المسافر ) ذكره معظم الأصحاب ; لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة بخلافه ، وقال القاضي : إن كان إماما فهو أحق ، جزم به ابن تميم ; لأنه عليه السلام كان يصلي بهم عام الفتح ، ويقول لأهل البلد : صلوا أربعا فإنا سفر رواه أبو داود ، فعلى هذا يتمها المقيم بعد السلام كمسبوق ، فإن أتم المسافر فروايتا متنفل بمفترض ، وقال ابن عقيل : [ ص: 64 ] ليس بجيد ; لأنه الأصل فليس بمتنفل ، وصحح في " الشرح " الصحة ; لأن المسافر إذا نوى الإتمام لزمه ، فيصير المجموع فرضا ، فعلى هذا لا تكره إمامته بمسافر كعكسه ، وفي " الفصول " إن نوى المسافر القصر احتمل أن لا يجزئه ; لأن الائتمام لزمه حكما ( والبصير أولى من الأعمى في أحد الوجهين ) ذكره غير واحد ، وجزم به في " الوجيز " ، وقدمه في " الفروع " ; لأنه أقدر على توقي النجاسات واستقبال القبلة باجتهاده ، والثاني : يقدم الأعمى ; وهو رواية ; لأنه أخشع لكونه لا يشتغل في الصلاة بما يلهيه ، وعنه : هما سواء ، وقاله القاضي ; لأن الخشوع مع توقي النجاسة يتقابلان فيتساويان ، قال المؤلف : والأول أولى ; لأن البصير لو غمض عينيه كره له ذلك ، ولو كان فضيلة لكان مستحبا ; لأنه يحصل بتغميضه ما يحصله الأعمى ، فإن كان الأعمى أصم ففي صحة إمامته وجهان ، وظاهره أنها تكره إمامته ; لأنه عليه السلام استخلف ابن أم مكتوم على المدينة يصلي بهم رواه أحمد ، وغيره من حديث أنس .

                                                                                                                          تنبيه : لم يتعرض المؤلف لإمامة البدوي ، والأصح أنها لا تكره إمامته ، ويقدم الحضري ، وتكره إمامة من يصرع ، نص عليه ، قال جماعة : ومن تضحك صورته أو رؤيته ، وقيل : والأمرد ، وفي " المذهب " وغيره ، وإمامة من اختلف في صحة إمامته ، قال في " الفروع " : فيؤخذ منه : تكره إمامة الموسوس ; وهو متجه لئلا يقتدي به عامي ، وظاهر كلامهم : لا ، قال في " المذهب " : والمتوضئ أولى من المتيمم .




                                                                                                                          الخدمات العلمية