الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب :

              إحداها : أن يدخل في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد ، [ وامتحان لهم ، لينظر كيف يعملون من غير التفات إلى غير ذلك ، وهذا مبني على أن الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد ] ، وامتحانا لهم ; فإنها طريق إلى السعادة أو الشقاوة ، وهي على ضربين :

              [ ص: 324 ] أحدهما : ما وضع لابتلاء العقول ، وذلك العالم كله من حيث هو منظور فيه ، وصنعة يستدل بها على ما وراءها .

              والثاني : ما وضع لابتلاء النفوس ، وهو العالم كله أيضا من حيث هو موصل إلى العباد المنافع والمضار ، ومن حيث هو مسخر لهم ، ومنقاد لما يريدون فيه ، لتظهر تصاريفهم تحت حكم القضاء والقدر ، ولتجري أعمالهم تحت حكم الشرع ; ليسعد بها من سعد ويشقى من شقي ، وليظهر مقتضى العلم السابق ، والقضاء المحتم الذي لا مرد له ; فإن الله غني عن العالمين ، ومنزه عن الافتقار في صنع ما يصنع إلى الأسباب والوسائط ، لكن وضعها للعباد ليبتليهم فيها .

              والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله سبحانه : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ هود : 7 ] .

              الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] .

              إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ الكهف : 7 ] .

              ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [ يونس : 14 ] .

              ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا [ الكهف : 12 ] .

              [ ص: 325 ] وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إلى قوله : ويعلم الصابرين [ آل عمران : 142 ] .

              وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم [ آل عمران : 154 ] .

              ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ آل عمران : 152 ] .

              إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن وضع الأسباب ، إنما هي للابتلاء فإذا كانت كذلك ; فالآخذ لها من هذه الجهة آخذ لها من حيث وضعت مع التحقق بذلك فيها ، وهذا صحيح ، وصاحب هذا القصد متعبد لله بما تسبب به منها ; لأنه إذا تسبب بالإذن فيما أذن فيه لتظهر عبوديته لله فيه ، لا ملتفتا إلى مسبباتها ، وإن انجرت معها فهو كالمتسبب بسائر العبادات المحضة .

              والثانية : أن يدخل فيه بحكم قصد التجرد عن الالتفات إلى الأسباب من حيث هي أمور محدثة ، فضلا عن الالتفات إلى المسببات ، بناء على أن تفريد المعبود بالعبادة أن لا يشرك معه في قصده سواه ، واعتمادا على أن التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة ; لأن بقاء الالتفات إلى ذلك كله بقاء مع المحدثات ، وركون إلى الأغيار ، وهو تدقيق في نفي الشركة ، وهذا أيضا في موضعه صحيح ، ويشهد له من الشريعة ما دل على نفي الشركة كقوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .

              وقوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 2 - 3 ] .

              وسائر ما كان من هذا الباب ، وكذلك دلائل طلب الصدق في التوجه لله [ ص: 326 ] رب العالمين كل ذلك يشعر بهذا المعنى المستنبط في خلوص التوجه ، وصدق العبودية ، فصاحب هذه المرتبة متعبد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته ، فضلا عن أن ينظر في مسبباتها ; فإنما يرجع إليها من حيث هي وسائل إلى مسببها وواضعها ، وسلم إلى الترقي لمقام القرب منه ; فهو إنما يلحظ فيها المسبب خاصة .

              والثالثة : أن يدخل في السبب بحكم الإذن الشرعي مجردا عن النظر في غير ذلك ، وإنما توجهه في القصد إلى السبب ; تلبية للأمر لتحققه بمقام العبودية لأنه لما أذن له في السبب أو أمر به لباه من حيث قصد الآمر في ذلك السبب ، وقد تبين له أنه مسببه ، وأنه أجرى العادة به ، ولو شاء لم يجرها ، كما أنه قد يخرقها إذا شاء ، وعلى أنه ابتلاء وتمحيص ، وعلى أنه يقتضي صدق التوجه به إليه ، فدخل على ذلك كله ، فصار هذا القصد شاملا لجميع ما تقدم ، لأنه توخى قصد الشارع من غير نظر في غيره ، وقد علم قصده في تلك الأمور ، فحصل له كل ما في ضمن ذلك التسبب مما علم ومما لم يعلم ، فهو طالب للمسبب من طريق السبب ، وعالم بأن الله هو المسبب ، وهو المبتلي به ، ومتحقق [ ص: 327 ] في صدق التوجه به إليه ، فقصده مطلق وإن دخل فيه قصد المسبب ، لكن ذلك كله منزه عن الأغيار ، مصفى من الأكدار .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية