الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين : الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له ، واختلفوا في أن الفسق الطارئ هل يبطل الإمامة أم لا ؟ واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما بينا أن قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) جواب لقوله : ( ومن ذريتي ) وقوله : ( ومن ذريتي ) طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ، ليكون الجواب مطابقا للسؤال ، فتصير الآية كأنه تعالى قال : لا ينال الإمامة الظالمين ، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه ، فكانت الآية دالة على ما قلناه ، فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهرا وباطنا ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة ، قلنا : أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا ، وأما نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك ، إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة ، فإن قيل : أليس أن يونس عليه السلام قال : ( سبحانك إني كنت من الظالمين ) [الأنبياء : 87] وقال آدم : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [الأعراف : 23] قلنا : المذكور في الآية هو الظلم المطلق ، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : ( ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) [يس : 60] يعني ألم آمركم بهذا ، وقال الله تعالى : ( قالوا إن الله عهد إلينا ) [آل عمران : 183] يعني أمرنا ، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول : لا يخلو قوله : ( لا ينال عهدي الظالمين ) من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين ، وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى ، ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى [ ص: 40 ] لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر ، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين ، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق ، قال عليه السلام : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ودل أيضا على أن الفاسق لا يكون حاكما ، وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم ، وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدم للصلاة وإن كان هو بحيث لو اقتدي به فإنه لا تفسد صلاته ، قال أبو بكر الرازي : ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماما وخليفة ، ولا يجوز كون الفاسق قاضيا ، قال : وهذا خطأ ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الخليفة والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة ، وأحكامه غير نافذة ، وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء ، وضربه فامتنع من ذلك فحبس ، فلح ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا ، فلما خيف عليه ، قال له الفقهاء : تول له شيئا من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب ، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل فخلاه ، ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة المنصور إلى مثل ذلك وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه ، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ، قال : وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة : إن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ، وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة ، والصلاة خلفه جائزة ، لأن القاضي إذا كان عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة ، فلا اعتبار في ذلك بمن ولاه ، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه ، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : الآية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد : الإمامة ، ولا شك أن كل نبي إمام ، فإن الإمام هو الذي يؤتم به ، والنبي أولى الناس ، وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقا ، فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقا فاعلا للذنب والمعصية أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) فهذا العهد إن كان هو النبوة ؛ وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة ، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ، وكل فاسق ظالم لنفسه فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : اعلم أنه سبحانه بين أن له معك عهدا ، ولك معه عهدا ، وبين أنك متى تفي بعهدك ، فإنه سبحانه يفي أيضا بعهده فقال : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [البقرة : 40] ثم في سائر الآيات فإنه أفرد عهدك بالذكر ، وأفرد عهد نفسه أيضا بالذكر ، أما عهدك فقال فيه : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) [البقرة : 177] وقال : ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [المؤمنون : 8] وقال : ( ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) [المائدة : 1] وقال : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [الصف : 3 ] وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه : ( ومن أوفى بعهده من الله ) [التوبة : 111] ثم بين كيفية عهده إلى أبينا آدم فقال : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) [طه : 115] ثم بين كيفية عهده إلينا فقال : [ ص: 41 ] ( ألم أعهد إليكم يابني آدم ) [يس : 60] ثم بين كيفية عهده مع بني إسرائيل فقال : ( إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول ) [آل عمران : 183] ثم بين كيفية عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ) [البقرة : 125] ثم بين في هذه الآية أن عهده لا يصل إلى الظالمين فقال : ( لا ينال عهدي الظالمين ) فهذه المبالغة الشديدة في هذه المعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه المعاهدة فنقول : العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية ، والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية ، ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد ، ومن ربه إلا الوفاء بالعهد ، فلنشرع في معاقد هذا الباب فنقول : أول إنعامه عليك إنعام الخلق والإيجاد والإحياء وإعطاء العقل والآلة ، والمقصود من كل ذلك اشتغالك بالطاعة والخدمة والعبودية على ما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات : 56] ونزه نفسه عن أن يكون هذا الخلق والإيجاد منه على سبيل العبث فقال : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) [الأنبياء : 16] وقال أيضا : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ) [ص : 27] وقال : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) [المؤمنون : 115] ثم بين على سبيل التفصيل ما هو الحكمة في الخلق والإيجاد فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] فهو سبحانه وفى بعهد الربوبية حيث خلقك وأحياك وأنعم عليك بوجوه النعم وجعلك عاقلا مميزا فإذا لم تشتغل بخدمته وطاعته وعبوديته فقد نقضت عهد عبوديتك مع أن الله تعالى وفى بعهد ربوبيته .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل ، ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [الإسراء : 44] وأنت ما وفيت البتة بعهد الطاعة والعبودية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن نعمة الله بالإيمان أعظم النعم ، والدليل عليه أن هذه النعمة لو فاتتك لكنت أشقى الأشقياء أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ثم هذه النعمة من الله تعالى لقوله : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [النحل : 53] ثم مع أن هذه النعمة منه فإنه يشكرك عليها وقال : ( فأولئك كان سعيهم مشكورا ) [الإسراء : 19] فإذا كان الله تعالى يشكرك على هذه النعمة فبأن تشكره على ما أعطى من التوفيق والهداية كان أولى ، ثم إنك ما أتيت إلا بالكفران على ما قال : ( قتل الإنسان ما أكفره ) [عبس : 17] فهو تعالى وفى بعهده ، وأنت نقضت عهدك .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن تنفق نعمه في سبيل مرضاته ، فعهده معك أن يعطيك أصناف النعم وقد فعل وعهدك معه أن تصرف نعمه في سبيل مرضاته وأنت ما فعلت ذلك ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [العلق : 7 ، 6] .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أنعم عليك بأنواع النعم لتكون محسنا إلى الفقراء : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة : 195] ثم إنك توسلت به إلى إيذاء الناس وإيحاشهم : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) [النساء : 37] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أعطاك النعم العظيمة لتكون مقبلا على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إلى السلطان العظيم لو أنعم عليك بخلعة نفيسة ، ثم إنك في حضرته تعرض عنه وتبقى مشغولا بخدمة بعض الأسقاط كيف تستوجب الأدب والمقت فكذا ههنا ، واعلم أنا لو اشتغلنا بشرح كيفية وفائه سبحانه بعهد الإحسان والربوبية [ ص: 42 ] وكيفية نقضنا لعهد الإخلاص والعبودية لما قدرنا على ذلك فإنا من أول الحياة إلى آخرها ما صرنا منفكين لحظة واحدة من أنواع نعمه على ظاهرنا وباطننا ، وكل واحدة من تلك النعم تستدعي شكرا على حدة وخدمة على حدة ، ثم إنا ما أتينا بها بل ما تنبهنا لها وما عرفنا كيفيتها وكميتها ، ثم إنه سبحانه على تزايد غفلتنا وتقصيرنا يزيد في أنواع النعم والرحمة والكرم ، فكنا من أول عمرنا إلى آخره لا نزال نتزايد في درجات النقصان والتقصير واستحقاق الذم ، وهو سبحانه لا يزال يزيد في الإحسان واللطف والكرم ، واستحقاق الحمد والثناء فإنه كلما كان تقصيرنا أشد كان إنعامه علينا بعد ذلك أعظم وقعا وكلما كان إنعامه علينا أكثر وقعا ، كان تقصيرنا في شكره أقبح وأسوأ ، فلا تزال أفعالنا تزداد قبائح ومحاسن أفعاله على سبيل الدوام بحيث لا تفضي إلى الانقطاع ثم إنه قال في هذه الآية : ( لا ينال عهدي الظالمين ) وهذا تخويف شديد لكنا نقول : إلهنا صدر منك ما يليق بك من الكرم والعفو والرحمة والإحسان وصدر منا ما يليق بنا من الجهل والغدر والتقصير والكسل فنسألك بك وبفضلك العميم أن تتجاوز عنا يا أرحم الراحمين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية