الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر استلحاق معاوية زيادا

وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية فزعموا أن رجلا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية ، فقال لزياد : إن لابن عامر عندي يدا فإذا أذنت لي أتيته . قال : على أن تحدثني بما يجري بينك وبينه . قال : نعم . فأذن له فأتاه ، فقال له ابن عامر : هيه هيه ! وابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي ! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش ( يحلفون بالله ) أن أبا سفيان لم ير سمية .

فلما رجع سأله زياد فلم يخبره ، فألح عليه حتى أخبره ، فأخبر زياد بذلك معاوية . فقال معاوية لحاجبه : إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب . ففعل ذلك به . فأتى ابن عامر يزيد فشكا ذلك إليه ، فركب معه حتى أدخله ، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل ، فقال يزيد لابن عامر : اجلس ، فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه ! فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل :


لنا سباق ولكم سباق قد علمت ذلكم الرفاق



[ ص: 40 ] ثم قعد فقال يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت ؟ أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزا ، وأني لم أتكثر بزياد من قلة ولم أتعزز به من ذلة ، ولكن عرفت حقا له فوضعته موضعه . فقال : يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد . قال : إذا نرجع إلى ما تحب . فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه .

فلما قدم زياد الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم . قالوا : ما تشاء ؟ قال : تلحقون نسبي بمعاوية :

قالوا : أما بشهادة الزور فلا . فأتى البصرة فشهد له رجل .

هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد ، ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك ، إنما ذكر حكاية جرت بعد استلحاقه ، وأنا أذكر سبب ذلك وكيفيته ، فإنه من الأمور المشهورة في الإسلام لا ينبغي إهمالها .

وكان ابتداء حاله أن سمية أم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر ، فمرض الدهقان ، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي ، فعالجه فبرأ ، فوهبه سمية ، فولدت عند الحارث أبا بكرة ، واسمه نفيع ، فلم يقر به ، ثم ولدت نافعا ، فلم يقر به أيضا ، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حصر الطائف ، قال الحارث لنافع : أنت ولدي . وكان قد زوج سمية من غلام له اسمه عبيد ، وهو رومي ، فولدت له زيادا .

وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي ، وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو سفيان لأبي مريم : قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيا . فقال له : هل لك في سمية ؟ فقال : هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها ، فأتاه بها ، فوقع عليها ، فعلقت بزياد ، ثم وضعته في السنة الأولى من الهجرة فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة ، ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زيادا أمرا فقام فيه مقاما مرضيا ، فلما عاد إليه حضر ، وعند عمر المهاجرون والأنصار ، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها . فقال عمرو بن العاص : لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه ! فقال أبو سفيان ، وهو حاضر : والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه . فقال علي : يا أبا سفيان اسكت فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا .

[ ص: 41 ] فلما ولي علي الخلافة استعمل زيادا على فارس ، فضبطها وحمى قلاعها ، واتصل الخبر بمعاوية ، فساءه ذلك وكتب إلى زياد يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه ، فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال : العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ، ورأس النفاق ! يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار ؟ أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمز مخشيا ضرابا بالسيف .

وبلغ ذلك عليا فكتب إليه : إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا ، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثا ولا تحل ( له نسبا ) ، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، فاحذر ثم احذر ، والسلام .

فلما قتل علي ، وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه ، واضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية : إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا وصالحك على ألفي ألف درهم ، والله ما أرى الذي يقال إلا حقا ، فإذا قال لك : وما يقال ؟ فقل : يقال إنه ابن أبي سفيان . ففعل مصقلة ذلك ، ورأى معاوية أن يستميل زيادا ، واستصفى مودته باستلحاقه ، فاتفقا على ذلك ، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي ، فقال له معاوية : ( بم ) تشهد يا أبا مريم ؟ فقال : أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيا فقلت له : ليس عندي إلا سمية ، فقال : ائتني بها على قذرها ووضرها ، فأتيته بها ، فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها لتقطران منيا . فقال له زياد : مهلا أبا مريم ! إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما .

فاستلحقه معاوية ، وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانية ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر .

وكتب زياد إلى عائشة : ( من زياد بن أبي سفيان ، وهو يريد أن تكتب له : إلى زياد بن أبي سفيان ، فيحتج بذلك ، فكتبت : من عائشة ) أم المؤمنين إلى ابنها زياد :

[ ص: 42 ] وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة ، وجرى ( أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها . ومن اعتذر لمعاوية قال : إنما ) استلحق معاوية زيادا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا ، لا حاجة إلى ذكر جميعها ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه ، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح ، إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه ولم يفرق بين شيء منها ، فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام ، ( وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة ) .

قيل : أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية ، فسمع أخوه أبو بكرة ، وكان مهاجرا له من حين خالفه في الشهادة ( بالزنا ) على المغيرة بن شعبة ، فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابنا له وقال له : يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولا بد من قدومك إلى المدينة ولا شك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أذنت لك فأعظم به خزيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبا لأعدائك .

فترك زياد الحج وقال : جزاك الله خيرا فقد أبلغت في النصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية