الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثاني: هبة المجنون:

        وفيه فروع:

        الفرع الأول: هبة المجنون حال اختلاله:

        [ ص: 122 ] اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على عدم صحة هبة المجنون، ولا عبرة بإجازة الولي لو أجاز ما أصدره المجنون من هبة.

        [ ص: 123 ] وهذا بالإجماع للأدلة الآتية:

        1 - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المجنون حتى يعقل".

        2 - ما سبق من الأدلة على عدم صحة هبة الصبي والمجنون من باب أولى.

        3 - أن انتقال الملك متوقف على الرضا، ومعرفة رضا المجنون متعذر لعدم التمييز وانتفاء تعقل المعاني.

        فلا تصح حينئذ هبته التي يصدرها.

        4 - أن الإنسان يعرف بالعقل ما ينفعه من العقود فيقدم عليه، والمجنون فاقد للعقل، فلا يصح ما يصدره من صيغ تفيد التزامه بعقد من العقود لرجحان جانب الضرر; نظرا إلى سفهه وقلة مبالاته وعدم قصده المصالح.

        وقد يستجر - من يعامله - ماله باحتياله.

        ه - أن الأهلية شرط لجواز التصرف وانعقاده، ولا أهلية بدون عقل وتمييز، والمجنون فاقد لهما.

        6 - ويستدل لعدم الاعتداد بإجازة الولي لما يصدره المجنون من هبة:

        بأن صدور الصيغة من المجنون تصرف باطل لا يعتد به، وإجازة الولي [ ص: 124 ] إنما تلحق التصرفات الموقوفة فتجعلها نافذة، ولا تلحق التصرفات الباطلة، فالباطل في حكم المعدوم.

        الفرع الثاني: هبة المجنون حال إفاقته:

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - فيما يصدره المجنون من هبة حال إفاقته على قولين:

        القول الأول: أن ما يصدره المجنون من هبة في حال إفاقته يعد صحيحا نافذا.

        وبهذا قال جمهور الفقهاء، فقد نصوا على ذلك في مواضع كولاية النكاح، وأسباب الحجر.

        فهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.

        القول الثاني: أن ما يصدره المجنون من هبة حال إفاقته، فيه تفصيل:

        فإن كان لإفاقة المجنون وقت معلوم فوهب في ذلك الوقت، فالحكم أنها صحيحة نافذة.

        وإن لم يكن لإفاقته وقت معلوم فوهب في حال الإفاقة، فالحكم أنها موقوفة على إجازة الولي.

        وإلى هذا القول ذهب بعض الحنفية.

        [ ص: 125 ] الأدلة:

        دليل القول الأول:

        استدل القائلون بصحة هبة المجنون حال إفاقته بما يلي:

        1 - أن الأصل صحة الهبة إلا لتخلف شرط، أو جود مانع، ولم يوجد.

        2 - أن العلة من عدم صحة هبة المجنون زالت بإفاقته، والقاعدة الشرعية: أن كل علة أوجبت حكما اقتضى أن يكون زوال تلك العلة موجبا لزوال ذلك الحكم.

        دليل القول الثاني:

        استدل القائلون بصحة هبة المجنون ونفاذها إن كان لإفاقته وقت معلوم، وبوقفها على إجازة الولي إن لم يكن لها وقت معلوم: أن من كان لإفاقته وقت معلوم فإنه يتحقق من صحوه، ومن لم يكن لإفاقته وقت معلوم لا يتحقق صحوه.

        ويناقش هذا التعليل: بأن العلة من عدم صحة هبة المجنون هي زوال العقل، فإذا أفاق زالت العلة، وتحقق شرط صحة الهبة، وارتفع بطلانها، وحينئذ فلا يلتفت إلى كون الإفاقة لها وقت معلوم أو لا.

        الترجيح:

        يظهر لي - والله أعلم بالصواب - رجحان القول بعدم صحة هبة المجنون; لقوة دليل أصحاب هذا القول، وضعف تعليل القائلين بالتفصيل.

        الفرع الثالث: هبة الخرف:

        الخرف: هو فساد العقل من الكبر والهرم، يقال: خرف الرجل خرفا [ ص: 126 ] - من باب تعب - فهو خرف.

        قال النووي: "الصورة الثانية مما يسلب النظر: اختلال النظر لهرم، أو خبل جبلي، أو عارض يمنع الولاية - أي: ولاية النكاح - وينقلها إلى الأبعد".

        وقال ابن قدامة: "الشيخ الذي قد ضعف لكبره فلا يعرف موضع الحظ لها فلا ولاية له - أي: في النكاح - ".

        فإذا رد الإنسان لأرذل العمر، وأصبح لا يعلم من بعد علم شيئا، فلا تصح هبته.

        ويدل لذلك ما يأتي:

        (44 ) 1 - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه السابق: "رفع القلم عن ثلاثة..." رواية فيها زيادة: "والخرف".

        2 - ما روي عن علي رضي الله عنه في عدم وقوع طلاق المعتوه.

        3 - أن الهرم الخرف كالمجنون; لفقده العقل، فليس أهلا للهبة وإبرام العقود.

        وبهذا يتبين أن الخرف كالمجنون في عدم صحة هبته التي تفيد التزامه بعقد من العقود.

        [ ص: 127 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية