الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ومن ذرعه قيء لم تبطل صلاته )

                                                                                                                            ش ذرعه بالذال المعجمة أي غلبه والمعنى أن من غلبه القيء في الصلاة لم تبطل صلاته ويتمادى فيها فإن خرج لغسله بطلت صلاته كما تقدم ومفهوم كلامه أنه لو تعمد القيء بطلت صلاته وهو كذلك وهذا إذا كان القيء طاهرا أو لم يرده بعد انفصاله إلى محل يمكن طرحه فإن كان القيء نجسا بأن تغير عن هيئة الطعام على المشهور أو قارب أوصاف العذرة على ما اختاره اللخمي وابن رشد بطلت الصلاة كما سيأتي بيانه وإن كان القيء طاهرا ورده بعد انفصاله إلى محل يمكن طرحه ناسيا أو مغلوبا ففي بطلان صلاته قولان وأما إن رده طائعا غير ناس فلا خلاف في بطلان صلاته ولنذكر لفظ المدونة وكلام الشيوخ عليها قال في آخر باب الرعاف من المدونة في كتاب الطهارة ومن تقيأ عامدا أو غير عامد ابتدأ الصلاة ولا يبني إلا في الرعاف وحده قال في الطراز القيء في الصلاة يختلف فيه منه ما يبطل الصلاة في المشهور ولو لم يتعمده ومنه ما لا يبطلها إلا إن تعمده فالأول هو ما كان نجسا مما خرج عن صفة الطعام والثاني ما كان طاهرا فيختلف فيه العامد من غيره كالأكل على ما بينه في الأكل في كتاب الصلاة ويختلف في القيء النجس إذا طرأ عليه هل يغسله عنه ويبني فعند أشهب يبني فيه وفي غيره من النجاسات على ما قاله في مدونته ثم ذكر توجيه المشهور في عدم البناء في غير الرعاف وقال ابن رشد في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب من كتاب الصلاة والمشهور أن من ذرعه القيء لا تفسد صلاته كما لا يفسد صيامه بخلاف الذي يستقي طائعا وهو قول ابن القاسم في رسم استأذن من سماع عيسى واختلف قوله إن رده بعد فصوله في فساد صلاته وصيامه يريد إن رده ناسيا أو مغلوبا وأما إن رده طائعا غير ناس فلا اختلاف في أن ذلك يفسد صومه وصلاته وقد قيل إن المغلوب أعذر من الناسي ولا يوجب ذلك الوضوء وإن كان نجسا لتغيره عن حال الطعام إلى حال الرجيع أو ما يقاربه إذ لا يوجب الوضوء على مذهب مالك إلا ما خرج من السبيلين من المعتاد على العادة باتفاق أو على غير العادة باختلاف انتهى .

                                                                                                                            فتحصل من هذا أن من ذرعه القيء غلبة فالمشهور وهو قول ابن القاسم أن صلاته صحيحة وأن من تعمد القيء أو رده بعد انفصاله طائعا فصلاته باطلة كما ذكره ابن رشد في الرسم المذكور ولم يحك في ذلك خلافا ونقله عنه ابن عرفة فقال : وعمد قيئه وابتلاعه بعد فصله مبطل انتهى ، وإن رده غلبة أو سهوا فاختلف قول ابن القاسم في فساد صلاته وصيامه وقال ابن رشد : إنه قد قيل : إن المغلوب أعذر من الناسي ويتحصل أيضا في رجوعه غلبة أو [ ص: 496 ] نسيانا ثلاثة أقوال نقلها ابن عرفة في فصل السهو ونصه وفي بطلانها بابتلاع مفصوله سهوا أو غلبة ، ثالثها إن سها لابن القاسم ونقل ابن رشد انتهى .

                                                                                                                            إذا علم هذا فقوله في المدونة عامدا أو غير عامد مشكل ، ولهذا قال ابن غازي : وفي بعض المقيدات في هذا نص المدونة مشكل إلا أن يريد الكثير أو النجس أو المردود بعد إمكان الطرح وفي بعضها أنه قيل لأبي الحسن الصغير لعله أراد أنه إذا ذهب للقيء لا يعود للبناء كما في الرعاف ، فقال : صواب إلا أن الشيوخ حملوه على خلاف ذلك ويعضد ما صوبه قوله بعد ولا يبنى إلا في الرعاف وإن أشهب يخالف فيه ، وكذا نقول هنا إن غير المغلوب مندرج في قول المصنف ولا يبنى بغيره وصرح به في السهو إذ قال : وبتعمد كسجدة أو نفخ أو أكل أو شرب أو قيء انتهى .

                                                                                                                            وما ذكره ابن غازي عن بعض المقيدات يقتضي أن القيء الكثير يبطل الصلاة ولو كان طاهرا أو كان غلبة وقد نص على ذلك ابن بشير في كتاب الطهارة ونصه والقلس وهو ما يخرج عند الامتلاء أو برد المزاج وقد يكون فيه الطعام غير متغير فهو ليس بنجس ، لكنه إن خرج في الصلاة وكثر قطع ليس لنجاسته بل لأنه مشغل عن الصلاة ، وإن قل لم يقطع انتهى . ونقله أبو الحسن في أوائل كتاب الطهارة وقبله ، وقال الشبيبي في شرح الرسالة في باب جامع في الصلاة : وظاهره أيضا أن المردود يبطل الصلاة مطلقا سواء كان نسيانا أو غلبة أو باختياره وقد تقدم الاختلاف في الغلبة والنسيان .

                                                                                                                            ( تنبيه ) ( القلس ) ماء حامض كذا فسره ابن رشد وصرح في الرسم المذكور بأنه طاهر وأنه لا يفسد الصلاة وقال في التوضيح القلس ماء حامض تقذفه المعدة انتهى .

                                                                                                                            وحكمه حكم القيء فإن كان متغيرا فهو نجس كما تقدم بيانه في كتاب الطهارة في الكلام على القيء وإن كان غير متغير فلا يفسد الصلاة لأنه لا يكون غالبا إلا غلبة فإن تعمد القلس فحكمه حكم تعمد القيء فتبطل صلاته وإن ابتلعه بعد أن وصل إلى محل يمكن طرحه فاختلف في بطلان الصلاة بذلك إذا كان نسيانا أو غلبة كما تقدم عن سماع عيسى وقال ابن عرفة وغلبة القلس لغو فإن ابتلعه بعد فصله عمدا ففي بطلانها نقلا الشيخ عن ابن القاسم وابن رشد عن رواية ابن نافع أساء ولا قضاء عليه انتهى . والظاهر من القولين ما نقله الشيخ فإن ابن رشد قال في رسم استأذن من سماع عيسى من كتاب الصلاة لما حكى رواية ابن نافع وهو بعيد انتهى . وما ذكره ابن رشد من أنه طاهر وهو على مذهب ابن رشد أن القيء المتغير عن هيئة الطعام طاهر ما لم يشابه أحد أوصاف العذرة وأما على المشهور فيفصل في القلس كما يفصل في القيء كما قدمناه والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية