الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( ولو شهد رجلان لرجلين على ميت بدين ألف درهم وشهد الآخران للأولين بمثله تقبل وإن كانت شهادة كل فريق بوصية ألف لا ) وهذا عند محمد ، وقال أبو يوسف لا تقبل في الدين أيضا ، ويروي أبو حنيفة مع محمد ويروي مع أبي يوسف وعن أبي يوسف مثل قول محمد وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم إذا جاءوا معا وشهدوا فالشهادة باطلة وإن شهد اثنان لاثنين فقبلت ثم ادعى الشاهدان بعد ذلك على الميت بألف درهم فشهد لهما الأولان تقبل قال في العناية : جنس هذه المسائل أربعة أوجه .

                                                                                        الأول ما اختلفوا فيه وهو الشهادة بالدين ، والثاني ما اتفقوا على عدم جوازه وهو الشهادة بالوصية بجزء شائع من التركة كالشهادة بألف مرسلة أو بثلث المال ، والثالث ما اتفقوا على جوازه وهو أن يشهد الرجلان بجارية وشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية عبد ، والرابع وهو المذكور في الكتاب آخرا هو أن يشهد الرجلان بجارية ويشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية عبد يعني ويشهد المشهود لهما للشاهدين بألف مرسلة أو بثلث المال ومبنى ذلك كله على تهمة الشركة فما ثبت فيه التهمة لا تقبل الشهادة فيه وهو الثاني ، والرابع وما لم تثبت فيه التهمة قبلت كالثالث على ما ذكر في الكتاب ، وأما الوجه الأول فقد وقع الاختلاف فيه بناء على ذلك أيضا . ا هـ .

                                                                                        أقول : تقسيم صاحب العناية وتقريره هنا مختل ; لأنه إن أراد بالأوجه الأقسام الكلية فهي ثلاثة لا غير أحدهما ما اتفقوا على جوازه وثانيها ما اتفقوا على عدم جوازه وثالثها ما اختلفوا فيه ، وما عداه وجها رابعا داخل في القسم الثاني لا محالة وإن أراد بها الأمثلة فهي خمسة لا أربعة كما تدل عليه عبارة الكتاب فلا وجه لجعل الاثنين منها وجها واحدا على أن قوله الأول ما اختلفوا فيه ، والثاني ما اتفقوا على عدم جوازه ، والثالث ما اتفقوا على جوازه لا يساعده كون مراده بالأوجه هو الأمثلة بل يقتضي كون مراده بها هو الأقسام الكلية المذكورة .

                                                                                        كما لا يخفى ثم أن صاحبي النهاية ، والكفاية وإن ذهبا أيضا إلى كون الأوجه في جنس هذه المسائل أربعة إلا أن تقريرهما لا ينافي كون المراد بالأوجه هو الأمثلة ، والمسائل دون الأقسام الكلية ، والأصول كما ينافيه تقرير صاحب العناية فإنهما قال وجنس هذه المسائل على أربعة أوجه في الوجه الأول تقبل الشهادة بالإجماع وهو أن يشهد الرجلان بوصية عين أخرى كالجارية ; لأنه لا شركة للمشهود فيه فلا تتمكن التهمة ، وفي الوجه الثاني : لا تقبل بالإجماع وهو أن يشهد الرجلان بالوصية بجزء شائع كالوصية بثلث ماله وشهد المشهود لهما للشاهدين بألف مرسلة أيضا ، وفي الوجه الثالث لا تقبل أيضا وهو أن يشهد الرجلان أن الميت أوصى للشاهدين الأولين بثلث ماله ; لأن الشهادة مثبتة للشركة ، وفي الوجه الرابع اختلفوا فيه وهو الشهادة بالدين ثم إن الحق أن تثبت القسمة هاهنا كما فعله الفقيه أبو الليث في كتاب نكت الوصايا حيث قال : وإذا شهد أربعة نفر شهد هذان لهذين ، وهذان لهذين على الميت فإن هذا على ثلاثة [ ص: 538 ] أوجه في وجه تقبل شهادتهما بالاتفاق ، وفي وجه لا تقبل بالاتفاق ، وفي وجه اختلفوا فيه ثم فعل كل وجه بالثلاثة .

                                                                                        ودليله كما فعل شمس الأئمة السرخسي في شرح الكافي للحاكم الشهيد حيث قال : وهاهنا ثلاثة فصول أحدها ما لا تقبل فيه الشهادة بالاتفاق ، والثاني ما تقبل فيه الشهادة بالاتفاق ، والثالث ما اختلفوا فيه وبين كل واحد منهما لمحمد أن الدين يجب في الذمة وهي قابلة لحقوق شتى فلا شركة فيه إذا لم يجب بسبب واحد ولهذا يختص أحدهما بما قبض ولا يكون للآخر حق المشاركة ولا ينتقل بالموت من الذمة إلى التركة ألا ترى أن التركة لو هلكت لا يسقط الدين وأن للوارث أن يستخلص التركة بقضاء الدين من محل آخر فلا يمكن الشركة بينهم فصار كما لو شهد الفريقان في حال حياته بخلاف الوصية فإن حق الموصى له يتعلق بالعين المتروكة حتى لا يبقى بعد هلاك التركة وليس للوارث أن يستخلص التركة ويعطيه من محل آخر ولو قبض أحد الفريقين شيئا كان للفريق الآخر حق المشاركة فكان كل فريق مثبتا لنفسه حق المشاركة في التركة فلا تصح شهادتهما ولأبي يوسف أن الدين بالموت يتعلق بالتركة لخراب الذمة ولهذا لا يثبت الملك فيها للوارث ولا ينفذ تصرفه فيها إذا كان مستغرقا بالدين فشهادة كل فريق للآخر تلاقي محلا اشتركا فيه فصار نظير مسألة الوصية فلا تقبل بخلاف الشهادة في حال الحياة ; لأن الدين في ذمته لبقائها في المال فلا تتحقق الشركة وجه رواية الحسن أنهما إذا جاء معا كان ذلك بمعنى المعاوضة فتتفاحش التهمة فترد .

                                                                                        بخلاف ما إذا كان على التعاقب ; لأن الأول قد مضى وثبت بمعنى المعاوضة فلا تهمة ، والثاني لا يزاحمه الأول عند صدوره فصار كالأول ، والوصية بجزء شائع كالوصية بالدراهم المرسلة فيما ذكرنا من الأحكام حتى لا تقبل فيها شهادة الفريقين ; لأنها تثبت التركة ولو شهد رجلان أنه أوصى لرجلين بعين كالعبد وشهد المشهود لهما أنه أوصى للشاهدين بثلث ماله أو بالدراهم المرسلة فهي باطلة ; لأن الشهادة في هذه الصورة مثبتة للشركة بخلاف ما إذا شهد رجلان لرجلين أنه أوصى لهما بعين أخرى حيث تقبل الشهادتان ; لأن لا شركة فلا تهمة والله تعالى أعلم .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية