الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ولا يجوز بيع ما لم يستقر ملكه عليه ، كبيع الأعيان المملوكة بالبيع والإجارة والصداق ، وما أشبهها من المعاوضات قبل القبض لما روي أن حكيم بن حزام قال : { يا رسول الله إني أبيع بيوعا كثيرة فما يحل لي منها مما يحرم ؟ قال : لا تبع ما لم تقبضه } ولأن ملكه عليه غير مستقر ; لأنه ربما هلك فانفسخ العقد ، وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز ، وهل يجوز عتقه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا يجوز لما ذكرناه ( والثاني ) يجوز ، لأن العتق له سراية تصح لقوته ( فأما ) ما ملكه بغير معاوضة كالميراث والوصية أو عاد إليه بفسخ عقد ، فإنه يجوز بيعه وعتقه قبل القبض ، لأن ملكه عليه مستقر فجاز التصرف فيه كالمبيع بعد القبض ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث حكيم رواه البيهقي بلفظه هذا ، وقال : إسناده حسن متصل ، وفي الصحيحين أحاديث بمعناه سنذكرها إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء . [ ص: 319 ] أما الأحكام ) فمذهبنا أنه لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه عقارا كان أو منقولا ، لا بإذن البائع ولا بغير إذنه ، لا قبل أداء الثمن ولا بعده ، وفي إعتاقه ثلاثة أوجه ( أصحها ) وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين يصح ويصير قبضا ، سواء كان للبائع حق الحبس أم لا ( والثاني ) لا يصح ، وهو قول أبي علي بن خيران ، ودليلهما في الكتاب ( والثالث ) قاله ابن سريج ، حكاه عنه القاضي أبو الطيب في تعليقه إن لم يكن للبائع حق الحبس بأن كان الثمن مؤجلا أو حالا أداه المشتري صح ، وإلا فلا ، وفي الكتابة وجهان ( أصحهما ) وبه قطع صاحب البيان وغيره لا يصح ، لأنها تقتضي تخليته للتصرف ، ولأنه ليس لها قوة الصرف وسرايته ، والاستيلاد كالإعتاق .

                                      ولو وقف المبيع قبل قبضه قال المتولي ( إن قلنا : ) الوقف يفتقر إلى القبول فهو كالبيع وإلا فكالإعتاق ، وهذا هو الأصح ، وبه قطع الماوردي وغيره ، قال الماوردي : ويصير قابضا حتى ولو لم يرفع البائع يده عنه صار مضمونا عليه بالقيمة ، قال : وهكذا لو كان طعاما اشتراه جزافا وأباحه للمساكين ( وأما ) الرهن والهبة ففيهما وجهان ، وقيل قولان ( أصحهما ) عند جمهور الأصحاب ، وبه قطع كثيرون : لا يصحان ، وإذا صححناهما فنفس العقد ليس قبضا ، بل يقبضه المشتري من البائع ، ثم يسلمه إلى المرتهن والمتهب ، فلو أذن المشتري لهما في قبضه ، قال البغوي : يكفي ويتم به البيع والرهن والهبة بعده ، وقال الماوردي لا يكفي ذلك المبيع وما بعده ولكن ينظر إن قصد قبضه للمشتري صح قبض المبيع ، ولا بد من استئناف قبض للهبة ولا يجوز أن يأذن له في قبضه من نفسه لنفسه ، وإن قصد لنفسه لم يحصل القبض للبيع ولا للهبة لأن قبضها يجب أن يتأخر عن تمام البيع ، والإقراض والتصدق كالهبة والرهن ففيهما الخلاف . [ ص: 320 ] وأما ) الإجارة ففيها وجهان مشهوران ( أصحهما ) عند الأكثرين لا يصح لأنها بيع وحكى المتولي طريقا آخر وصححه ، وهو القطع بالبطلان ( وأما ) تزويج المبيعة قبل قبضها ففيه ثلاثة أوجه ( أصحها ) صحته . وبه قطع صاحب البيان ، لأنه يقتضي ضمانا بخلاف البيع قال المتولي وغيره : ولهذا يصح تزويج المغصوبة والآبقة ( والثاني ) البطلان ( والثالث ) إن لم يكن للبائع حق الحبس صح ، وإلا فلا ، وحكي هذا الوجه في الإجارة أيضا وإذا صححنا التزويج فوطء الزوج لم يكن قبضا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض ، لا يجوز جعله أجرة ولا عوضا في صلح ، ولا إسلامه في شيء ، ولا التولية فيه ، ولا الاشتراك ، وفي التولية والاشتراك وجه ضعيف .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : المال المستحق للإنسان عند غيره قسمان دين وعين ( أما ) الدين فقد ذكره المصنف في هذا الفصل بعد هذا . وسنوضحه إن شاء الله تعالى ( وأما ) العين فضربان أمانة ومضمون ( الضرب الأول ) الأمانة فيجوز للمالك بيع جميع الأمانات قبل قبضها ، لأن الملك فيها تام وهي كالوديعة في يد المودع ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل ، فالمال في يد الوكيل في البيع بعد فكاك الرهن ، وفي يد المستأجر بعد فراغ المدة ، والمال في يد الولي بعد بلوغ الصبي ورشده ، ورشد السفيه ، وإفاقة المجنون ، وما كسبه العبد باصطياد واحتطاب واحتشاش ونحوها ، أو قبله بالوصية قبل أن يأخذه السيد من يده ، وما أشبه ، هذا كله يجوز بيعه قبل قبضه . ولو ورث مالا فله بيعه قبل قبضه إلا إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضا ، بأن اشتراه ولم يقبضه ، ولو اشترى من مورثه شيئا ومات المورث قبل التسليم فله بيعه قبل قبضه ، سواء كان على المورث دين أم لا ، فإن [ ص: 321 ] كان عليه دين تعلق الغريم بالثمن ، فإن كان له وارث آخر لم ينفذ بيعه في قدر نصيب الآخر ، حتى يقبضه ، ولو أوصى له إنسان بمال فقبل الوصية بعد موت الموصي فله بيعه قبل قبضه ، وإن باعه بعد الموت وقبل القبول جاز ( إن قلنا ) تملك الوصية بالموت ( وإن قلنا ) بالقبول أو موقوف فلا .

                                      ( والضرب الثاني ) المضمونات وهي نوعان ، الأول المضمون بالقيمة ، ويسمى ضمان اليد فيصح بيعه قبل قبضه لتمام الملك فيه ويدخل فيه ما صار مضمونا بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره ، حتى لو باع عبدا وجد المشتري به عيبا وفسخ البيع كان للبائع بيع العبد قبل أن يسترده ويقبضه ، قال المتولي إلا إذا لم يؤد الثمن ، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع الثمن فلا يصح بيعه قبله قال : وقد نص الشافعي على هذا . ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه كان للمسلم بيع رأس المال قبل استرداده ، ولو باع سلعة فأفلس المشتري بالثمن وفسخ به البائع فله بيعها قبل قبضها ، ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستأجر ، وفي يد المشتري شراء فاسدا ، والمتهب هبة فاسدة ، ويجوز بيع المغصوب للغاصب .

                                      ( النوع الثاني ) المضمون بعوض في عقد معاوضة ، لا يصح بيعه قبل قبضه ، وذلك كالمبيع والأجرة والعوض المصالح عليه عن المال ، والعوضين في الهبة بشرط ثواب ، حيث صححناها ، ودليله الحديث ، وعللوه بعلتين ( إحداهما ) ضعف الملك لتعرضه للانفساخ بتلفه ( والثاني ) توالي الضمان ، ومعناه أن يكون مضمونا في حالة واحدة لا اثنين ، وهذا مستحيل ، فإنه لو صححنا بيعه كان مضمونا للمشتري الأول على البائع الأول ، والثاني على الثاني ، وسواء باعه المشتري للبائع أو لغيره لا يصح ، هكذا قطع به العراقيون وكثيرون أو الأكثرون من الخراسانيين ، وحكى جماعة من الخراسانيين وجها شاذا ضعيفا أنه يجوز بيعه للبائع ، وتفريعا [ ص: 322 ] على العلة الثانية ، وهي توالي الضمان ، فإنه لا يتوالى إذا كان المشتري هو البائع ، لأنه يصير في الحال مقبوضا له أو بعد لحظة ، بخلاف الأجنبي ، والمذهب بطلانه كالأجنبي ، قال المتولي : والوجهان فيما إذا باعه بغير جنس الثمن أو بزيادة أو نقص أو تفاوت صفة ، وإلا فهو إقالة بصيغة البيع . ولو رهنه عند البائع أو وهبه له فطريقان ( أحدهما ) القطع بالبطلان ( وأصحهما ) أنه على الخلاف كغيره ، فإن جوزناه فأذن له في القبض فقبض ملك في صورة الهبة وتم الرهن ، ولا يزول ضمان البيع في صورة الرهن ، بل إن تلف انفسخ البيع . هذا إذا رهنه عنده بغير الثمن ، فإن رهنه به صح إن كان بعد قبضه ، فإن كان قبله فلا إن كان الثمن حالا ، لأن الحبس ثابت له ، وإن كان مؤجلا فهو كرهنه بدين آخر قبل القبض والله سبحانه أعلم .

                                      ( وأما ) بيع الصداق قبل القبض من يد الزوج ففيه قولان حكاهما الخراسانيون بناء على القولين المشهورين في أنه مضمون على الزوج ضمان العقد كالمبيع ؟ أم ضمان اليد كالعارية ؟ والأصح ضمان العقد ( فإن قلنا ) ضمان اليد ، جاز كالعارية ( وإن قلنا ) ضمان العقد فهو كالمبيع ، فلا يجوز بيعه قبل قبضه لأجنبي ، وفي بيعه للزوج الخلاف . والمذهب أنه لا يجوز ، وقطع المصنف وأكثر العراقيين بأنه لا يجوز بيع الصداق قبل قبضه ، قال الخراسانيون : ويجري القولان في بيع الزوج بدل الخلع قبل أن يقبضه ، وفي بيع العافي عن القصاص المال المعفو عليه قبل القبض لمثل هذا المأخذ والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) قال الرافعي - رحمه الله - : ووراء ما ذكرناه صور ، إذا تأملتها عرفت من أي ضرب هي ( فمنها ) ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي - رحمه الله - أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها [ ص: 323 ] قبل القبض ، فمن الأصحاب من قال : هذا إذا أفرزه السلطان ، فتكون يد السلطان في الحفظ يد المقر له ، ويكفي ذلك لصحة البيع ، ومن الأصحاب من لم يكتف بذلك وحمل النص ما إذا وكل وكيلا في قبضه فقبضه الوكيل ثم باعه الموكل ، وإلا فهو بيع شيء غير مملوك ، وبهذا قطع القفال ( قلت : ) الأول أصح وأقرب إلى النص ، وقول الرافعي وبه قطع القفال يعني بعدم الاكتفاء لا بالتأويل المذكور ، فإني رأيت في شرح التلخيص للقفال المنع المذكور ، وقال : ومراد الشافعي بالرزق الغنيمة ، ولم يذكر غيره ، ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة ، والرفق بالجند لمسيس الحاجة ، وممن قطع بصحة بيع الأرزاق التي أخرجها السلطان قبل قبضها المتولي وآخرون وروى البيهقي فيه آثار الصحابة مصرحة بالجواز .

                                      قال المتولي : وهكذا غلة الوقف إذا حصلت لأقوام ، وعرف كل قوم قدر حقه فباعه قبل قبضه صح بيعه ، كرزق الأجناد قال الرافعي ( ومنها ) بيع أحد الغانمين نصيبه من الغنيمة على الإشاعة قبل القبض ، وهو صحيح إذا كان معلوما وحكمنا بثبوت الملك في الغنيمة ، وفيما يملكها به خلاف مذكور في بابه ، قال ( ومنها ) لو رجع فيما وهب لولده ، فله بيعه قبل قبضه على الصحيح من الوجهين ( ومنها ) الشفيع إذا تملك الشقص ، قال البغوي : له بيعه قبل القبض ، وقال المتولي : ليس له ذلك ، لأن الأخذ بها معاوضة ، وهذا أصح وأقوى ، كذا قال الرافعي هنا ثم قال في كتاب الشفعة في نفوذ تصرف الشفيع قبل القبض ، إذا كان قد سلم الثمن وجهان ( أصحهما ) المنع كالمشتري ( والثاني ) الجواز لأنه قهري كالإرث قال : ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي لم ينفذ تصرفه قطعا ، وكذا لو ملك برضاء المشتري بكون الثمن يبقى في ذمة الشفيع ، وفي جواز أخذ الشفيع الشقص من يد البائع قبل قبض المشتري وجهان ، ذكرهما المصنف في كتاب الشفعة وسنوضحهما هناك إن شاء الله تعالى .

                                      [ ص: 324 ] ومنها ) للموقوف عليه بيع الثمرة الخارجة من الشجرة الموقوفة قبل أن يأخذها ( ومنها ) إذا استأجر صباغا ليصبغ ثوبا وسلمه إليه ، فليس للمالك بيعه قبل صبغه ، لأن له حبسه بعمل ما يستحق به الأجرة وإذا صبغه فله بيعه قبل استرداده إن دفع الأجرة ، وإلا فلا ، لأنه يستحق حبسه إلى استيفاء الأجرة ، وإذا استأجر قصارا لقصر ثوب وسلمه إليه لم يجز بيعه قبل قصره ، فإذا قصره بنى على أن القصارة هل هي عين ؟ فتكون كمسألة الصبغ ؟ أم أثر فله البيع ؟ إذ ليس للقصار الحبس على هذا ( والأصح ) أنها عين قال المتولي وغيره : وعلى هذا قياس صوغ الذهب ، ورياضة الدابة ، ونسج الغزل ، قال المتولي ، ولو استأجره ليرعى غنمه شهرا وليحفظ متاعه المعين ثم أراد المستأجر التصرف في ذلك المال قبل انقضاء الشهر ، صح تصرفه وبيعه ، لأن حق الأجير لم يتعلق بعين ذلك المال ، فإن للمستأجر أن يستعمله في مثل ذلك العمل .

                                      ( ومنها ) إذا قاسم شريكه فبيع ما صار له قبل قبضه ، يبني على أن القسمة بيع أو إفراز . قال المتولي ( فإن قلنا : ) القسمة إفراز ، جاز بيعه قبل قبضه من يد شريكه ( وإن قلنا ) بيع فنصف نصيبه حصل له بالبيع ، ونصفه حصل بملكه القديم ، لأن حقيقة القسمة على هذا القول بيع كل واحد نصف ما صار لصاحبه بنصف ما صار له ، فله التصرف في نصف ما صار له دون نصفه ، قال : فإن كان فيها رد فحكمها في القدر المملوك بالعوض حكم البيع ( ومنها ) إذا أثبت صيدا بالرمي أو وقع في شبكته ، فله بيعه ، وإن لم يأخذه ، ذكره صاحب التلخيص هنا ، وقال القفال : ليس هو مما نحن فيه لأنه بإثباته قبضه حكما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) تصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض ، كالولد والثمرة وكسب العبد وغيره ، يبنى على أنها تعود إلى البائع لو عرض انفساخ ؟ أم لا تعود ؟ فإن أعدناها لم يتصرف فيها قبل قبضها ، كالأصل ، [ ص: 325 ] وإلا فيصح تصرفه ، ولو كانت الجارية حاملا عند البيع وولدت قبل القبض ( إن قلنا : ) الحمل يقابله قسط من الثمن لم يتصرف فيه ، وإلا فهو كالولد الحادث بعد البيع والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) إذا باع متاعا بدراهم أو بدنانير معينة فله حكم المبيع ، فلا يجوز تصرف البائع فيها قبل قبضها ، لأنها تتعين بالتعيين عندنا ولا يجوز للمشتري إبدالها بمثلها ، ولو تلف قبل القبض انفسخ البيع ، ولو وجد البائع بها عيبا لم يستبدل بها إن رضيها ، وإلا فسخ العقد ، فلو أبدلها بمثلها أو بغير جنسها برضاء البائع كبيع المبيع للبائع ، والأصح بطلانه كما سبق ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لو اشترى شيئا بثمن في الذمة ، وقبض المبيع ، ولم يدفع الثمن ، فله بيع المبيع بلا خلاف ، سواء باعه للبائع أو لغيره .

                                      ( فرع ) لو باع سلعة وتقابضا ثم تقايلا ، وأراد البائع بيعها قبل قبضها من المشتري ، فالمذهب صحته ، قال صاحب البيان : قال أصحابنا البغداديون : يصح بيعه قطعا ، لأنه ملكها بغير عقد ، وقال صاحب الإبانة : هل يصح بيعها ؟ فيه قولان بناء على أن الإقالة بيع أو فسخ ، وفيها قولان ( الصحيح ) الجديد إنها بيع ( والقديم ) إنها فسخ ( فإن قلنا ) فسخ جاز ، وإلا فلا ، وكذا قال المتولي ( وإن قلنا ) الإقالة بيع لم يجز ، وإلا فكالمفسوخ بعيب وغيره ، فنفرق بين أن يكون قبض الثمن أم لا ، كما ذكرناه عنه في أول الضرب الثاني .

                                      ( فرع ) نقله الأصحاب عن ابن سريج إذا باع عبدا بعبد ثم قبض أحد العاقدين ما اشتراه قبضا شرعيا ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما اشتراه [ ص: 326 ] منه صح بيعه ، لأنه قبضه ، فإن تلف عبده الذي باعه صاحبه قبل قبضه بطل البيع الأول لتلف المبيع قبل القبض ولا يبطل الثاني لتعلق حق المشتري الثاني به ، ولكن يجب على البائع الثاني قيمة الذي باعه ثانيا ، لأنه تعذر رده فوجبت قيمته ، هكذا قطع الأصحاب بهذا كله في الطريقتين إلا المتولي فقال : في بطلان العقد الثاني وجهان ( أصحهما ) لا يبطل كما قطع به الجمهور ، قال : وهما مبنيان على أن الفسخ هل يرفع العقد من أصله ؟ أو من حينه ؟ ( إن قلنا ) من أصله بطل ، وإلا فلا قال أصحابنا : فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد وقبض المشتري الشقص فأخذه الشفيع بالشفعة ، ثم تلف العبد في يد المشتري ، قبل أن يقبضه بائع الشقص ، انفسخ البيع في العبد ولم يبطل الأخذ بالشفعة فلا يؤخذ الشقص من يد الشفيع ، بل يلزم المشتري قيمة الشقص لبائعه ، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد لأن العقد وقع به والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : للمشتري الاستقلال بقبض المبيع بغير إذن البائع إن كان دفع الثمن إليه أو كان مؤجلا ، كما للمرأة قبض صداقها بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها ، فإن كان حالا ولم يدفعه إلى البائع لم يجز له قبضه بغير إذنه فإن قبضه لزمه رده ; لأن البائع يستحق حبسه لاستيفاء الثمن ، فإن تصرف المشتري فيه لم ينفذ تصرفه . ولكن يكون في ضمانه بلا خلاف . قال المتولي وغيره حتى لو تلف في يده استقر عليه الثمن . ولو تعيب لم يكن له رده بالعيب ولو رده على البائع بعد ذلك وتلف في يد البائع لم يسقط الثمن عن المشتري .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض . قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا ، سواء كان طعاما أو غيره ، وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن . قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى يقبضه ، قال : واختلفوا في غير الطعام [ ص: 327 ] على أربعة مذاهب ( أحدها ) لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام قاله الشافعي ومحمد بن الحسن ( والثاني ) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون قاله عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق ( والثالث ) لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض ، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ( والرابع ) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب . قاله مالك وأبو ثور ، قال ابن المنذر وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى . واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعنه قال : { لقد رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا يعني الطعام فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن ابن عباس قال : أما الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم { فهو الطعام أن يباع حتى يقبض قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله } رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم الله { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه قال ابن عباس : وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام } وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكيله } رواه مسلم .

                                      وفي رواية قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى } وعن جابر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه } رواه مسلم قالوا : فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل على أن غيره بخلافه ، قالوا : وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه وعلى بيع الثمر قبل قبضه [ ص: 328 ] واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تبع ما لم تقبضه } وهو حديث حسن كما سبق بيانه في أول هذا الفصل ، وبحديث زيد بن ثابت { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم } رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس ، وقد قال : عن أبي الزناد ، والمدلس إذا قال " عن " لا يحتج به ، لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث ، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده ، فلعله اعتضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد ، وبالقياس على الطعام .

                                      ( والجواب ) عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين ( أحدهما ) أن هذا استدلال بداخل الخطاب ، والتنبيه مقدم عليه ، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره بأولى ( والثاني ) أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد ( وأما ) قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض ( والجواب ) عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ونظير المبيع إنما هو الثمن المعين ، ولا يجوز بيعه قبل القبض وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع ، والله أعلم .

                                      واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ، ولأنه لا يتصور تلف العقار بخلاف غيره ، واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك وأجابوا عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه ( وأما ) قولهم : لا يتصور تلفه ، فينتقض بالجديد الكثير . والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية