الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      سورة البروج

                                                                                                                                                                                                                                      لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين [ ص: 85 ] ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم، وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه.

                                                                                                                                                                                                                                      بسم الله الرحمن الرحيم والسماء ذات البروج أي القصور كما قال ابن عباس وغيره، والمراد بها عند جمع البروج الاثنا عشر المعروفة، وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية، وقيل: شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل: هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول؛ لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا، وقد تقدم الكلام فيها. وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة: هي النجوم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم، والله تعالى أعلم بصحته.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال: هي النجوم العظام، وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور، ولم يظهر شموله جميع النجوم، وقيل: هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا، فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم، وبرج الثور ليس إلا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني عشر أو المنازل قيل: المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه، ولذا يسمى فلك البروج. وقيل: السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقيل: الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل: المراد بالسماء الفلك الثامن؛ لأنها فيه حقيقة، وقيل: السماء الدنيا وقيل: الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس، أعني الفلك الأعلى؛ لأنه كاسمه غير مكوكب، وإذا أريد بها الأبواب فقيل: المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي، لكن لما سمع بعض الإسلاميين [ ص: 86 ] من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع، والاثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك، وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك؛ فالذي ينبغي أن يقال: البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية