الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في الأكل والشرب ( قال أبو حنيفة رحمه الله : يكره لحوم الأتن وألبانها وأبوال الإبل . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس بأبوال الإبل ) [ ص: 5 ] وتأويل قول أبي يوسف أنه لا بأس بها للتداوي ، وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة والذبائح فلا نعيدها ، واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه

التالي السابق


( قوله قال أبو حنيفة : يكره لحوم الأتن وألبانها وأبوال الإبل . وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : لا بأس بأبوال الإبل ) قال جماعة من الشراح : خص الأتن مع كراهة لحم سائر الحمر ليستقيم عطف الألبان عليه ، إذ اللبن لا يكون إلا من الأتان انتهى .

يعنون أنه لو قال تكره لحوم الحمر وألبانها لرجع الضمير في ألبانها إلى الحمر المذكور فيما قيل ، وذلك يعم الذكور والإناث ، فلا يستقيم عطف الألبان مضافة إلى الضمير الراجع إلى مطلق الجر على ما قبلها ; لأن الألبان لا تتصور في ذكور الحمر ، وإنما تتحقق في إناثها التي هي الأتن . نعم يمكن تصحيح ذلك أيضا بتقدير وتأويل ، لكن مرادهم عدم استقامة ذلك نظرا إلى ظاهر التركيب فسقطت عن كلامهم مؤاخذة بعض المتأخرين وقال ذلك البعض : وإنما خص كراهة لحم الأتن بالذكر ولم يذكر كراهة لحم غيرها مما سبق في كتاب الذبائح ، لأنه لما عنون الفصل بأنه في الأكل والشرب ، وقد ذكر في الذبائح جميع ما لا يؤكل لحمه ولو أعاد كلها يلزم التكرار فذكر بعضا منها تذكيرا للبواقي انتهى .

أقول : ليس هذا مما يعتد به ; لأن حديث عنوان الفصل بأنه في الأكل والشرب لا يفيد شيئا فيما نحن فيه أصلا ، فإن [ ص: 5 ] ما يتعلق بالأكل والشرب في هذا الفصل غير منحصر في هذه المسألة ، بل كثير من المسائل الآتية المذكورة في هذا الفصل من مسائل الأكل والشرب أيضا ، فيصح عنوان الفصل بالأكل والشرب ، سواء لم تذكر هذه المسألة فيه أصلا أو ذكر معها غيرها أيضا مما سبق في الذبائح . وأما حديث ذكر بعض من المسائل السابقة في الذبائح تذكيرا للبواقي فغير تام أيضا ; لأن ذكر ما ذكر مر وبين مستوفى تذكيرا لبواقي المذكورات ليس من دأب المصنفين ولا مما يهم أصلا ، ثم أقول : الأوجه أن يقال : إنما خص الأتن بالذكر مع كراهة لحوم غيرها أيضا ; لأن جميع ما لا يؤكل لحمه قد ذكر في الذبائح مستوفى ، وكراهة لحوم الأتن إنما ذكرت هاهنا توطئة لكراهة ألبانها التي لم تذكر فيما مر قط ، ولا مدخل لكراهة لحوم غيرها في التوطئة لذلك فلا جرم خص الأتن بالذكر دون غيرها . ثم قال ذلك البعض : وأما حكم أبوال الإبل فإنما ذكره المصنف فيما سبق ، وذكره محمد هاهنا في الجامع الصغير ، فليس فيه التكرار حتى يحتاج فيه إلى الاعتذار انتهى كلامه .

أقول : ليس هذا بكلام صحيح ; لأن المصنف أيضا ذكره هاهنا في الهداية والبداية فلزمه التكرار قطعا ، وإنما لم يلزمه التكرار لو ذكره محمد في الجامع الصغير ولم يذكره المصنف هاهنا . وأما كون مأخذ ما ذكره المصنف هاهنا ما ذكره محمد في الجامع الصغير فلا يجدي شيئا في دفع التكرار ; لأن المصنف ليس في حيز الاجتهاد ، فكل ما ذكره مأخوذ من قول مجتهد ، فإذا ذكر مسألة مرتين لزم التكرار لا محالة ( قوله وتأويل قول أبي يوسف لا بأس به للتداوي ) إنما احتاج المصنف إلى هذا التأويل ; لأن مذهب أبي يوسف أن بول ما يؤكل لحمه نجس لما مر في كتاب الطهارات فلزم أن يكون شربه حراما .

والمفهوم من قوله هاهنا : وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس بأبوال الإبل حل شربها عند أبي يوسف أيضا . فأول المصنف قول أبي يوسف المذكور هاهنا بنفي البأس عن شربها للتداوي ، وشربها للتداوي ليس بحرام عنده ، وإن كانت نجسا تمسكا بقصة العرنيين كما مر بيانه في كتاب الطهارات .

قال صاحب غاية البيان في هذا المقام : وأما قول أبي يوسف ومحمد في الجامع الصغير : لا بأس بذلك ، فمنصرف إلى لحم الفرس خاصة ، لأن بول الإبل نجس عند أبي يوسف أيضا ، إلا أنه أطلق شربه للتداوي ، وقد مر في كتاب الطهارات في فصل البئر انتهى . أقول : فيه نظر ; لأن لفظ محمد في الجامع الصغير هكذا : محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال : أكره شرب أبوال الإبل وأكل لحوم الفرس . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس بذلك إلى هنا لفظ محمد في الجامع الصغير ، وقد اعترف به الشارح المذكور حيث ذكر لفظه هكذا بعينه : ولا يذهب عليك أن عبارة كله في قوله وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس بذلك كله تمنع من أن يكون قول أبي يوسف ومحمد في الجامع الصغير منصرفا إلى لحم الفرس خاصة ، بل يقتضي شموله لأبوال الإبل أيضا ( قوله وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة والذبائح فلا نعيدها ) أقول : في رواج هذه الحوالة بحث ، فإن ألبان الأتن من هذه الجملة [ ص: 6 ] ولم تبين فيما تقدم قط ، وكذا أبوال الإبل من هذه الجملة ولم تبين في شيء من كتابي الصلاة والذبائح ، وإنما بينت في كتاب الطهارات في فصل البئر في ضمن بيان بول ما يؤكل لحمه مطلقا ، وعن هذا قال صاحب الكافي وقد مرت هذه الجملة في كتاب الطهارة والذبائح .

ويمكن أن يتمحل في توجيه كل من هاتين الصورتين . أما في توجيه الصورة الأولى منهما فبأن يحمل المراد بهذه الجملة في قوله قد بينا هذه الجملة على ما عدا الألبان بقرينة بيان كراهة اللبن بعد قوله فلا نعيدها بقوله واللبن يتولد من اللحم فأخذ حكمه . وأما في توجيه الصورة الثانية منهما فبأن الطهارة لما كانت من شروط الصلاة ومباديها عبر المصنف عن كتاب الطهارات بكتاب الصلاة مسامحة .

قال بعض المتأخرين : وإنما قال في الصلاة مع أن البيان لم يكن فيها بل في كتاب الطهارة في فصل البئر إشارة إلى أنه ينبغي أن يذكر مسائل الطهارة في فصل من فصول كتاب الصلاة كما وقع في فتاوى قاضي خان وأن لا يترجم لها كتاب على حدة انتهى . أقول : ليس هذا شيء ; لأن مآله أن يكون مراد المصنف بتعبيره المذكور الإشارة إلى تقبيح نفسه فيما فعله في أول كتابه من ترجمة الطهارات بكتاب على حدة دون فصل من فصول كتاب الصلاة ، وهل يليق بالعاقل أن يقصد الإشارة إلى مثل ذلك . على أن الشراح ذكروا قاطبة في أول الكتاب وجها وجيها لإيراد الطهارة في كتاب مستقل ، فكون الذي ينبغي أن يذكر مسائل الطهارة في فصل من فصول الصلاة ممنوع ، وعن هذا ترى أكثر ثقات السلف والخلف ذكروا مسائل الطهارة في كتاب على حدة وقال ذلك البعض : ثم إن المصنف بين فيما تقدم أن شرب أبوال الإبل حرام عند أبي حنيفة رحمه الله مطلقا ، وحلال عند محمد رحمه الله مطلقا ، وللتداوي فقط عند أبي يوسف .

وذكر أدلتهم هناك ، لكن بني دليل محمد على طهارته ، مع أن استلزام طهارته حل شربه غير ظاهر ، وأن طهارته لم تلزم عنده إلا من حله الثابت بقوله عليه الصلاة والسلام { ما وضع شفاؤكم فيما حرم عليكم } كما سبق ، فبناء حله على طهارته دور ظاهر ، إلى هنا كلامه . أقول : حديث الدور ساقط جدا ; لأن حله إنما يكون علة لطهارته في العقل بأن يصير دليلا عليها . وأما طهارته فإنما تكون علة لحله في الخارج فاختلفت الجهة ، وهذا نظير ما قالوا في العلوم العقلية أن الحمى علة للعفونة في الذهن والعفونة علة للحمى في الخارج ، فالاستدلال بالحمى على العفونة برهان إني وبعكسه برهان لمي ولا دور أصلا ، وهكذا الحال بين كل مؤثر وأثره . فإن الأول علة للثاني في الخارج ، وإن كان الثاني علة للأول في العقل : أي دليلا عليه ، ومن هذا القبيل استدلالنا بوجود العالم على وجود الصانع




الخدمات العلمية