الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        5905 - وروي في ذلك عن عطاء بن أبي رباح ما قد حدثنا ابن مرزوق قال : ثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج ، عن عطاء في رجل رهن رجلا جارية ، فهلكت قال : ( هي بحق المرتهن ) .

                                                        [ ص: 104 ] فهذا عطاء يقول بهذا ، وقد روينا عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يغلق الرهن .

                                                        فهذا أيضا حجة على مخالفنا إذا كان من أصله أن من روى حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتأويله فيه حجة .

                                                        فقد خالف هذا كله في هذا الباب ، وخالف ما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن عمر ، وعلي رضي الله عنهما ، وعمن ذكرنا من التابعين رحمة الله عليهم ، فمن إمامه في هذا ؟ أو بمن اقتدى به ؟

                                                        ثم النظر في هذا أيضا يدفع ما قال وما ذهب إليه ، إذ جعل الرهن أمانة يضيع بغير شيء .

                                                        وقد أجمعوا أن الأمانات لربها أن يأخذها ، وحرام على المرتهن منعه منها .

                                                        والرهن مخالف لذلك إذ كان للمرتهن حبسه ومنع مالكه منه حتى يستوفي دينه ، فخرج بذلك حكمه من حكم الأمانات .

                                                        ورأينا الأشياء المغصوبة حرام على الغاصبين حبسها ، وحلال للمغصوبين منهم أخذها ، والرهن ليس كذلك ؛ لأن المرتهن حلال له حبس الرهن ، ومنع الراهن منه حتى يستوفي منه دينه .

                                                        ورأينا العواري للمستعير الانتفاع بها ، وللمعير أخذها منه متى أحب .

                                                        والرهن ليس كذلك ؛ لأن المرتهن حرام عليه استعمال الرهن ، وليس للراهن أخذه منه حتى يوفيه دينه .

                                                        فبان حكم الرهن عن حكم الودائع ، والغصوب ، والعواري ، وثبت أن حكمه بخلاف حكم ذلك كله .

                                                        وقد أجمعوا أن للمرتهن حبسه حتى يستوفي الدين ، وحلال للراهن أخذه إذا برئ من الدين .

                                                        فلما كان حبس الرهن مضمنا بحبس الدين ، وسقوط حبسه مضمنا بسقوط حبس الدين ، كان كذلك أيضا ثبوت الدين مضمنا بثبوت الرهن ، فما كان الرهن ثابتا فالدين ثابت ، ومتى كان الرهن غير ثابت فالدين غير ثابت .

                                                        وكذلك رأينا المبيع في قولنا ، وقول هذا المخالف لنا ، للبائع حبسه بالثمن ، ومتى ضاع في يده ضاع بالثمن .

                                                        فالنظر على ما اجتمعا عليه نحن وهو ، من هذا أن يكون الرهن كذلك ، وأن يكون ضياعه يبطل الدين كما كان ضياع المبيع يبطل الثمن .

                                                        فهذا هو النظر في هذا الباب ، غير أن أبا حنيفة ، وأبا يوسف ، ومحمدا ، رحمة الله عليهم ، ذهبوا في الرهن إلى ما قد رويناه في هذا الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وإبراهيم النخعي رحمة الله عليه .

                                                        واحتجوا في ذلك بما قد أجمعوا عليه في الغصب ، فقالوا : رأينا الأشياء المغصوبة لا يوجب ضياعها من غصبها أكثر من ضمان قيمتها ، وغصبها حرام .

                                                        قالوا : فالأشياء المرهونة التي قد ثبت أنها مضمونة أحرى أن لا يجب بضمانها على من قد ضمنها أكثر من مقدار قيمتها .

                                                        وكانوا يذهبون في تفسير قول سعيد بن المسيب : له غنمه وعليه غرمه ، إلى أن ذلك في البيع .

                                                        [ ص: 105 ] يريدون إذا بيع الرهن بثمن فيه نقص عن الدين غرم المرتهن ذلك النقص ، وهو غرمه المذكور في الحديث ، وإذا بيع بفضل عن الدين أخذ الراهن ذلك الفضل ، وهو غنمه المذكور في الحديث .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية