الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجددون لأمر الدين وبيان المراد من التجديد

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله -عز وجل- يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة من يجدد لها دينها» رواه أبو داود.

قال في الترجمة: أكثر الناس فهموا من هذا الحديث أن المراد به: شخص واحد من الأمة، امتاز من بين أهل الزمان بالتجديد ونصرة الدين وترويجه، وتقوية السنة، وقلع البدعة وقمعها، ونشر العلم وإعلاء كلمة الإسلام، إلى أن عينوا من كان كذلك في المئة الأولى، ثم المئة الأخرى، وهلم جرا.

وقال بعضهم: الأولى حمله على العموم، سواء كان رجلا واحدا أو جمعا؛ فإن كلمة «من» تقع على الواحد وعلى الجمع.

وأيضا ليس هذا التجديد مختصا بالعلماء والفقهاء، بل يشمل الملوك والأمراء والقراء، وأصحاب الحديث، والزهاد، وعلماء النحو، وأرباب السير [ ص: 259 ] والتواريخ، والأغنياء والأسخياء الباذلين أموالهم وأشياءهم على العلماء والصلحاء، وفي مصاف الخير، الباعثين على ترويج الدين وتقويته، وجميع الطوائف التي يحصل للدين قوة وكمال ورواج منهم.

قال: وإن اعتبر عموم البلاد والديار أيضا لموجود واحد، أو جماعة في بلد أو بلاد على هذه الصفة، فليس ببعيد. انتهى.

وأقول: هذا البيان -مع اختصاره- جامع للمراد، وتمام الكلام على هذا المرام في كتاب «حجج الكرامة» وقد ذكر فيه من كان كذلك من زمن السلف إلى هذا الزمان.

وخلاصة القول: أن المراد بالتجديد في هذا الحديث تجديد الدين. والدين عبارة عما جاء به سيد المرسلين من عند رب العالمين، لا ما جاء به جماعة من المبتدعين، أو اتفق عليه طائفة من المقلدين.

والذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو هذا القرآن، وهذا الحديث.

فمن روج القرآن في الأمة، تلاوة، أو درسا، أو ترجمة، أو تحريرا للتفسير له، أو نشرا، أو توريثا، وأحيا السنن المأثورة فيهم، تدريسا، وتشريحا وطباعة، وكتابا، وتبليغا، وتحقيقا لأحكامها ومسائلها، وتنقيحا لمسائلها على طريقة السلف الصالحين، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بالإحسان إلى آخر الدهر، وأخمد العلوم الأخرى، والكتب المفرعة عليها، مما لا حاجة إليه في الدين، ومحل أسفار الملحدين، والمقلدين، والمبتدعين، والمشركين من طوائف الإسلام وغيره، مما يضاد الكتاب والسنة، ويشاقق القرآن والحديث، وسعى في ذلك غاية ما أمكنه من السعي في إهمال البدع والفتن، وإحياء السنن، وإماتة الآراء والأهواء، وإقامة الآثار البيضاء السمحة السهلة الحنيفية الغراء، سواء كان من الملوك، أو من المماليك، ومن الأمراء، أو من الصعاليك، ومن أرباب الأقلام، أو أصحاب الأعلام، وسواء كان في العرب، أو في العجم، أو يكون واحد بهذه الصفة، أو جماعة في بلد، أو في بلاد، وفي زمن، أو أزمان، وفي العباد أهل الباطن، أو في العلماء أهل الظاهر، وفي أهل الحرف والعساكر، [ ص: 260 ] أو في السوقة وغيرهم ممن اتسم بسمة الإسلام، والإيمان، والإخلاص، في الباطن والظاهر - فهو لا شك من أهل التجديد ممن كان، وأينما كان.

وأما من شمر عن ساق الجد لترويج البدعات، وإشاعة المحدثات، ودعاية الناس إلى تقليدات الرجال، والتمسك بأقاويل الأجيال والأقيال، وقام بالرد والقدح في علماء الآثار، وألف في ذلك الأسفار، ما بين الطول والاختصار، وانتصر لأئمة الأمصار، فيما خالف من قولهم أو فعلهم ظاهر السنة والكتاب، وصار يدرس الكتب البدعية، والطوامير العقلية، ويطرح دواوين الحديث وراء ظهره، ولا يرفع إليها رأسا، ولا يضيء لها في بيته نبراسا، وغايته من دعوى التجديد والاجتهاد له هي الشهرة، وفعله يكذب قوله - فهو مغرور، غره إبليس اللعين، واقع في شرك الجهل والضلالة، يخبط فيما يأتي به ويذر خبط العشواء، بل مجنون من جملة المجانين.

وإنما قلنا ذلك لما رأينا جماعة نبغت في هذا الزمان، وسمعنا بها تدعي لها التجديد والاجتهاد، وليس عليها أثارة من علم ولا عقل، ولا إنصاف ولا إخلاص، بل هي الطالبة لجاه الدنيا ومعيشتها عند من هو عن الدين بمعزل، وعن الإسلام على طرف الثمام. والعوام تبع لكل ناعق، والناس مقلدون بكل ناهق.

فسبحان الله من هذا التجديد وذلك الاجتهاد وبحمده، رأينا ذلك بأعيننا، وسمعناه بأسماعنا.

ونرى الدنيا قد انصرمت وأظلت للفناء، والقيامة جاءت، وآذنت بالمحن والعناء، وظهر من أشراطها ما لا يجحده إلا مكابر جاهل، عن العقل عاطل، وعن العلم غافل.

فرحم الله امرأ نصح نفسه في هذه الآفة، ووقاها عن مثل هذه الشرافة، ولزم البيت، وسكت عن كيت وذيت، والله يختص برحمته من يشاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية