الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 261 ] بحث في معرفة أصول العلم وحقيقته، وما الذي يقال له اسم العلم والفقه مطلقا

تقدم حديث: «العلم ثلاثة» في الباب الماضي، وهو عند أبي داود، وابن ماجه، وهو نص على أن العلم عبارة عن كتاب الله، وسنة رسوله، لا ثالث لهما.

والمراد بالفريضة العادلة في هذا الحديث: هو علم المواريث دون الإجماع والقياس، كما زعم بعض أهل العلم.

ويدل لهذا حديث ابن مسعود مرفوعا: «تعلموا العلم، وعلموه الناس، تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، تعلموا القرآن، وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض، والعلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة، لا يجدان أحدا يفصل بينهما» رواه الدارقطني والدارمي.

وفي حديث أبي هريرة يرفعه: «تعلموا الفرائض والقرآن، وعلموا الناس فإني مقبوض» رواه الترمذي.

وهذا نص في محل النزاع، فما أبعد حملها على غير ذلك!

قال العلامة الشيخ صالح بن محمد الفلاني في «إيقاظ الهمم»: عن ابن عمر -رضي الله عنه-: العلم ثلاثة أشياء:

1- كتاب ناطق. 2- وسنة ماضية. 3- ولا أدري.

أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» موقوفا، وكذا أبو نعيم، والطبراني في الأوسط، والخطيب في «رواة مالك» والدارقطني في «غرائبه».

[ ص: 262 ] قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: الموقوف حسن الإسناد. انتهى.

قلت: ويدل له حديث ابن مسعود بلفظ: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال تعالى لنبيه: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ص: 86] متفق عليه.

وفيه: أن «لا أدري» و«لا أعلم» من العلم، ولم يقل: إن الرأي، والقياس، أو الإجماع علم ثالث ورابع.

ويزيده إيضاحا حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عون، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما:

1- كتاب الله. 2- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم».


وروى مالك في «الموطأ» عن أنس بن مالك مرفوعا: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله».

وهذان الحديثان حجة على من قال بأن أصول الشرع أربعة؛ لأن فيهما القصر في الأمرين، وهما القرآن والحديث.

وقال ابن وهب: قال مالك: الحكم حكمان: حكم جاء به كتاب الله، وحكم أحكمته السنة، فذلك الحكم الواجب، وذلك الصواب.

وقال: العلم نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل.

وفي رواية: ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه.

وقال ابن وضاح: وسئل سحنون: أيسع العالم أن يقول: لا أدري فيما يدري؟ فقال: أما ما فيه كتاب قائم، أو سنة ثابتة؛ فلا يسعه ذلك، وأما ما كان من هذا الرأي، فإنه يسعه ذلك؛ لأنه لا يدري: أمصيب هو أم مخطئ؟ ثم ذكر [ ص: 263 ] حديث: «نضر الله عبدا...» إلخ، وقال: فسمي الحديث فقها مطلقا. وذكر حديث أبي هريرة، وفيه «لما رأيت من حرصك على العلم».

وفي آخره: «لما رأيت من حرصك على الحديث» قال ابن عبد البر: فسمي الحديث علما على الإطلاق.

وفي حديث أبي بن كعب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أبا المنذر! أي آية معك في كتاب الله أعظم؟» قال: فقلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم [البقرة: 255] قال: فضرب في صدري وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر» الحديث، وسنده صحيح. وفيه إطلاق العلم على القرآن.

وفي حديث أبي سلمة في قصة المتوفى عنها زوجها، فقلت: إن عندي من هذا علما، وذكر حديث سبيعة الأسلمية.

وفي حديث ابن عباس في قصة الوباء، جاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: إن عندي من هذا علما. ثم ذكر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذه الأحاديث والآثار تدل دلالة واضحة على أن اسم العلم إنما يطلق على ما في كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا على ما لهج به أهل التقليد، وأرباب الرأي والعصبية؛ من حصرهم العلم فيما دون من كتب الرأي المذهبية، مع مصادمة بعضها وأكثرها لنصوص الأحاديث النبوية.

وقد قال الشعبي: وما قالوا فيه برأيهم فبل عليه.

وهذه المقالة منه كانت في عصر التابعين الذين شهد لهم سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية.

فما بالك بمن بعدهم من ذلك القرن إلى هذا القرن الثالث عشر، الذي جعل أهله دينهم الحمية والعصبية، وانحصروا في طوائف.

فطائفة منهم «خليليون» ادعوا أن جميع ما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- محصور في [ ص: 264 ] «مختصر خليل» ونزلوه منزلة كتاب الله العزيز الجليل، فصاروا يتبعون مفهومه ومنطوقه، وكل دقيق فيه وجليل.

وطائفة منهم «كنزيون» أو «دريون» ادعوا أن ما في «الكنز» و«الدر المختار» هو العلم، وأنهما معصومان من الخطأ والوهم.

فإن شذ شيء عن هذين من علم، فالعمدة على ما في «الأسعدية» و«الخيرية».

وما في هذه الكتب عند علمائهم مقدم في العمل على ما نزل به جبريل -عليه السلام- على خير البرية.

وطائفة منهم «منهجيون» أو «منهاجيون» فيبحثون عن منطوقهما ومفهومهما، وبما فيهما يتعبدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59]. قال عطاء: أي إلى كتاب الله، وسنة رسوله.

وقال ميمون بن مهران: إلى الله أي: إلى كتابه، وإلى الرسول أي: مادام حيا، فإذا قبض، فإلى سنته.

وعن ابن عون: «ثلاث أخبؤهن لي ولإخواني: 1- هذا القرآن، يتدبره الرجل ويتفكر فيه، فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه. 2- وهذه السنة، يطلبها المرء ويسأل عنها. 3- ويذر الناس إلا من خير».

قال أحمد بن خالد: هذا هو الحق الذي لا شك فيه. قال: وكان ابن وضاح يعجبه هذا الخبر، ويقول: جيد جيد.

وعن عطاء في قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول قال: هي اتباع الكتاب والسنة وأولي الأمر منكم قال: هم أولو العلم والفقه. وبه قال مجاهد.

وقد تقدم أن العلم والفقه هو ما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من القرآن والأحاديث.

التالي السابق


الخدمات العلمية