الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيهات [ التنبيه ] الأول [ القصد من الحد ] بان مما سبق عن كلام أئمتنا أن القصد من الحد التمييز بينه وبين غيره ، ولهذا قال الأنصاري في " شرح الإرشاد " : قال إمام الحرمين : القصد من [ ص: 133 ] التحديد في اصطلاح المتكلمين : الفرق بخاصة الشيء وحقيقته التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره . ا هـ . ولهذا كان الاضطراد والانعكاس لا يتم الحد إلا بهما . وأما المناطقة فقالوا : إن فائدة الحد التصوير ، وبنوا على ذلك أمورا ستأتي . قال أبو العباس بن تيمية في كتاب الرد عليهم : والذي عليه جميع الطوائف أن فائدته التمييز بينه وبين غيره ، وهو قول الأشعرية والمعتزلة وغيرهم ممن صنف في هذا الباب من أتباع الأئمة الأربعة . بل أكثرهم لا يجوز الحد إلا بما يميز المحدود ، لكنه لم يهتد إلى ما صار إليه أئمة الكلام في هذا المقام ، وهو موضع شريف ينبغي الإحاطة به فإن بسبب إهماله دخل الفساد في المعقول والأديان على كثير ، إذ خلطوا ما ذكره المنطقيون في الحدود بالعلوم النبوية ، وصاروا يعظمون أمر الحدود ، ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق ، وطول الكلام في ذلك مما يوقف عليه من كلامه .

                                                      قلت : وبنى المنطقيون على هذا الأصل قواعد : إحداها : قالوا : الحد لا يكتسب بالبرهان أي لا يمكن تحصيله ببرهان وعقدوا الاستدلال عليه بما حاصله : أن البرهان إنما يكون في القضايا التي فيها حكم ، والحد لا حكم فيه ; لأنه تصور ، وهذا الإطلاق ممنوع بل الحق أنا إذا قلنا : الإنسان مثلا حيوان ناطق فله أربع اعتبارات : أحدها : تعريف الماهية ، وهو تصور لا حكم فيه فلا يستدل عليه ولا يمنع . ثانيها : دعوى الحدية ، وهذا يمنع ويستدل ببيان صلاحية هذا الحد [ ص: 134 ] للتعريف من اطراده وانعكاسه ، وصراحة ألفاظه . ثالثها : دعوى المدلولية ، وهو أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى لغة أو شرعا فهذا يمنع ويستدل عليه ، وهذا قاله الإمام فخر الدين في كتابه " نهاية العقول " ، وكذلك قيد به ابن الحاجب إطلاقهم منع اكتسابه بالبرهان . قال : أما لو أريد بالإنسان حيوان ناطق مدلوله لغة أو شرعا فلا بد له من النقل . رابعها : أن يراد به أن ذات الإنسان محكوم عليها بالحيوانية والناطقية فيتوجه عليه المنع والمطالبة ، ولا يكون ذلك حدا بل دعوى . ذكره الإمام فخر الدين أيضا .

                                                      وقال في " الملخص " : هذا بحسب الاسم ، أما إذا كان بحسب الحقيقة ، وهو أن يشير إلى موجود معين ، ويزعم أن حقيقته مركبة من كذا وكذا ، فلا شك أنه لا بد فيه من الحجة ، والذي أطلقه هنا ابن سينا في كتبه امتناع الاكتساب للحد بطريق البرهان مطلقا . وذكر عن " أفلاطون " أنه يكتسب بالقسمة ، وزيفه . فإن قيل : ما ذكرتموه يتوجه عليه النقض والمعارضة على الحد ، وقد اتفق النظار على توجههما . ثم أجاب بأن الحق عندنا : أن الحد ما لم ينضم إليه شيء من الدعاوى ، فإنه لا يتوجه إليه النقض ، وإنما يتوجه النقض على تسليم بعد الحد . مثاله : إذا قيل : العلم هو الذي يصح من الموصوف به أحكام الفعل ، [ ص: 135 ] فإذا قيل هذا منقوض بالعلم بالواجبات والمحالات ، فإنه علم ولا يفيد أحكاما ، فهذا النقض إنما يسلم بعد تسليم وجود العلم المتعلق بالمحالات . فلو لم تسلم هذه الدعوى لم يمكن توجه النقض إليه . قال : وكذا المعارضة لا يمكن القدح بها في الحد إلا عند تسليم الدعوى ، وإلا فالحقائق غير متعاندة في ماهياتها ، فإن من عارض هذا الحد بأنه الاعتقاد المقتضي سلوك النفس فليس بين هاتين الحقيقتين تعاند ، وإذا لم يكن بين الحقيقتين منافاة لم تتحقق المعارضة في الحدود .

                                                      القاعدة الثانية : وهي في الحقيقة مبنية على ما قبلها أن الحد لا يمنع ، فإن المنع يشعر بطلب الدليل ، والفرض أنه لا يبرهن عليه فلا معنى للمنع ، وبيان عدم الإمكان أنه في إقامة الدليل عليه يفتقر إلى إثبات مقدمتين . ثم في إثبات كل واحدة منهما يفتقر إلى إثبات مقدمتين أخريين ، وهكذا إلى غير نهاية ، فيلزم إما الدور أو التسلسل ، وهما باطلان ، وقال أبو العباس بن تيمية : يجوز منع الحد ; لأنه دعوى فجاز أن يصادم بالمنع كغيره من الدعاوى . وفيما قاله نظر ، فإن مرجع المنع طلب البرهان ، وهو لا يمكن على ما قرروه ، وليس كل دعوى تصادم بالمنع بدليل الأوليات ، فإن الكلام إذا انتهى إليها وجب الوقوف عندها ، ولم يسمع منعها . وقال الجاجرمي في رسالته " إن هذا ينشأ عن حد الحد ما هو ؟ حتى ينظر فيه أنه هل يمنع أم لا ؟ والحد قد يكون حقيقيا وقد يكون رسميا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية