الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فتلقى آدم من ربه كلمات ) ، تلقى : تفعل من اللقاء ، وهو هنا بمعنى التجرد ، أي لقي آدم ، نحو قولهم : تعداك هذا الأمر ، بمعنى عداك ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل ، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل ، نحو : كسرته فتكسر ، والتكلف نحو : تحلم ، والتجنب نحو : تجنب ، والصيرورة نحو : تألم ، والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو : تقمص ، والعمل فيه نحو : تسحر ، والاتخاذ نحو : تبنيت الصبي ، ومواصلة العمل في مهلة نحو : تفهم ، وموافقة استفعل نحو : تكبر ، وموافقة المجرد نحو : تعدى الشيء ، أي عداه ، والإغناء عنه نحو : تكلم ، والإغناء عن فعل نحو : توبل ، وموافقة فعل نحو : تولى ، أي ولى ، والختل نحو : تعقلته ، والتوقع نحو : تخوفه ، والطلب نحو : تنجز حوائجه ، والتكثير نحو : تعطينا . ومعنى تلقي الكلمات : أخذها وقبولها ، أو الفهم ، أو الفطانة ، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها ، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب ، وقول من زعم أن أصله : تلقن ، فأبدلت النون ألفا ، ضعيف ، وإن كان المعنى صحيحا ; لأن ذلك لا يكون إلا مما كان عينه ولامه من جنس واحد نحو : تظنى ، وتقضى ، وتسرى ، أصله : تظنن ، وتقضض ، وتسرر ، ولا يقال في تقبل : تقبى .

وقرأ الجمهور برفع ( آدم ) ونصب الكلمات ، وعكس ابن كثير . ومعنى تلقي الكلمات لآدم : وصولها إليه ; لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال : فجاءت آدم من ربه كلمات . وظاهر قوله : كلمات ، أنها جملة مشتملة على كلم ، أو جمل من الكلام قالها آدم ، فلذلك قدروا بعد قوله : كلمات ، جملة محذوفة وهي : فقالها فتاب عليه . واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال ، وقد طولوا بذكرها ، ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة ، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون ، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعب وعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد : هي ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ، الآية .

وروي عن ابن مسعود ، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " . وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه : " ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي " وما قاله يونس : " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " . وروي عن ابن عباس ووهب أنها : " سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك خير الغافرين " . وقال محمد بن كعب هي : " لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " . وحكى السدي عن ابن عباس أنه قال : " رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تنفخ في من روحك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى ، قال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة ؟ قال : " نعم " . وزاد قتادة في هذا : " وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك ؟ قيل له بلى ، قال : رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني ؟ قيل له : نعم ، فقال : رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قيل له : نعم " . وقال قتادة هي : " أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التواب الرحيم " . وقال عبيد بن عمير ، قال : " يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني ؟ أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك ، قال : " فكما كتبت علي فاغفر لي " . وقيل إنها : " سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت [ ص: 166 ] الغفور " . وقيل : رأى مكتوبا على ساق العرش محمد رسول الله ، فتشفع بذلك فهي الكلمات . وقيل : قوله حين عطس : " الحمد لله " . وقيل : هي الدعاء والحياء والبكاء . وقيل : الاستغفار والندم والحزن . قال ابن عطية : وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها صادرة عن كلمات ، وهي : كن في كل واحدة منهن " ، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود . انتهى كلامه .

( فتاب عليه ) : أي تفضل عليه بقبول توبته وأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه ، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة ; لأنه هو المواجه بالأمر والنهي ، وهي تابعة له في ذلك ، فكملت القصة بذكره وحده ، كما جاء في قصة موسى والخضر ، إذ جاء ( حتى إذا ركبا في السفينة ) ، فحملاها بغير نول ، وكان مع موسى يوشع ، لكنه كان تابعا لموسى فلم يذكره ولم يجمع معهما في الضمير ، أو اكتفى بذكر أحدهما ، إذ كان فعلهما واحدا ، نحو قوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، ( فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) ، أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله : ( وعصى آدم ربه فغوى ) .

وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة ، وقد ذكرها في قوله : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) ، وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين ، وقد ضرب بهما المثل للكفار ; لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش . والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه ، بل ينادي عليه ليكون ذلك أخزى له وأحط لدرجته ، وحواء ليست كذلك ، ولأن معصيتهما تكررت واستمر منهما الكفر والإصرار على ذلك ، والتوبة متعذرة لما سبق في علم الله أنهما لا يتوبان ، وليست حواء كذلك لخفة ما وقع منها ، أو لرجوعها إلى ربها ، ولأن التبكيت للمذنب شرع رجاء الإقلاع ، وهذا المعنى معقود فيهما ، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكر اسميهما غير مضافين إليهما ، وتوبة العبد رجوعه عن المعصية ، وتوبة الله على العبد رجوعه عليه بالقبول والرحمة . واختلف في التوبة المطلوبة من العبد ، فقال قوم : هي الندم ، أخذا بظاهر قوله ، صلى الله عليه وسلم : " الندم توبة " وقال قوم : شروطها ثلاثة : الندم على ما فات ، والإقلاع عنه ، والعزم على أن لا يعود . وتأولوا الندم توبة على معظم التوبة نحو : الحج عرفة ، وزاد بعضهم في الشروط ، برد المظالم إذا قدر على ردها ، وزاد بعضهم : المطعم الحلال ، وقال القفال : لا بد مع تلك الشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك ، وذلك أنه مأمور بالتوبة ، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كما لزمه ، فيكون خائفا ، ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .

روي عن ابن عباس أن آدم وحواء بكيا على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة . وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئا يفوت الحصر كثرة ، وقال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى . وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء . وقرأ الجمهور ( إنه ) : بكسر الهمزة ، وقرأ نوفل بن أبي عقرب : أنه بفتح الهمزة ، ووجهه أنه فتح على التعليل ، التقدير : لأنه ، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة ، إذ هي في تقدير مفرد ثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع ، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقل الثابت ، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها ، كما جاءت في : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة ) ، ( اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) ، ( وصل عليهم إن صلاتك ) ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها ، وقالوا : إن إن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه ، فإن قطع بأحد الأمرين ، فليس من مظانها ، فإن وجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهرا ، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما ، وسيأتي الكلام على ذلك في نحو : ( إنكم بعد ذلك لميتون ) ، [ ص: 167 ] إن شاء الله .

ولما دخلت للتأكيد في قوله : ( إنه هو التواب الرحيم ) ، قوي التأكيد بتأكيد آخر ، وهو لفظه : ( هو ) . وقد ذكرنا فائدته في قوله : ( وأولئك هم المفلحون ) . وبولغ أيضا في الصفتين بعده ، فجاء التواب على وزن فعال ، والرحيم على وزن فعيل ، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة ، وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرجوع إلى الطاعة ، وإطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه ، والتواب من أسمائه تعالى ، وهو الكثير القبول لتوبة العبد ، أو الكثير الإعانة عليها . وقد ورد هذا الاسم في كتاب الله معرفا ومنكرا ، ووصف به تعالى نفسه ، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى . وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يوصف به إلا تجوزا ، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب ، وفرق بين إطلاقه على الله تعالى وعلى العبد ، وذلك لاختلاف صلتيهما ، ألا ترى : ( فتاب عليه ) ، ( وتوبوا إلى الله ) ؟ فالتوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه ، ومن العبد هي الرجوع إلى طاعته تعالى ، لطلب ثواب ، أو خشية عقاب ، أو رفع درجات . وأعقب الصفة الأولى بصفة الرحمة ; لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده ، وتقدم التواب لمناسبة ( فتاب عليه ) ، ولحسن ختم الفاصلة بقوله : ( الرحيم ) . وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها ، فأغنى ذلك عن إعادته .

( قلنا اهبطوا ) ، كرر القول ، إما على سبيل التأكيد المحض ; لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة ، فكرر تنبيها على ذلك ، أو لاختلاف متعلقيهما ; لأن الأول علق به العداوة ، والثاني علق بإتيان الهدى . وأما لا على سبيل التأكيد ، بل هما هبوطان حقيقة ، الأول من الجنة إلى السماء ، والثاني من السماء إلى الأرض ، وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول : ( ولكم في الأرض مستقر ) ، ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني ، فكان ينبغي الاستقرار أن يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها ، وظاهر الضمير أنه يعود إلى الجنة ، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما .

( جميعا ) : حال من الضمير في اهبطوا ، وقد تقدم الكلام في لفظة جميعا وأنها تقتضي التعميم في الحكم ، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط ، فقد دلا على اتحاد زمان الهبوط . وأبعد ابن عطية في قوله : كأنه قال هبوطا جميعا ، أو هابطين جميعا ، فجعله نعتا لمصدر محذوف ، أو لاسم فاعل محذوف ، كل منهما يدل عليه الفعل . قال : لأن جميعا ليس بمصدر ولا اسم فاعل ، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره ; لأنه قال : أولا وجميعا حال من الضمير في اهبطوا . فإذا كان حالا من الضمير في اهبطوا على ما قرر أولا ، فكيف يقدر ثانيا ؟ كأنه قال : هبوطا جميعا ، أو هابطين جميعا . فكلامه أخيرا يعارض حكمه أولا ، ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالا حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره ، وأبعد غيره أيضا في زعمه أن التقدير : وقلنا اهبطوا مجتمعين ، فهبطوا جميعا ، فجعل ثم حالا محذوفة لدلالة جميعا عليها ، وعاملا محذوفا لدلالة اهبطوا عليه ، ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول : أي فقلنا : إما يأتينكم .

وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط ، وعلى تقدير أن يكون هبوطا ثانيا ، فقيل يخص آدم وحواء ; لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخصا بخطاب الجمع تشريفا لهما . وقيل : يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع ، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد ، والنون في يأتينكم نون التوكيد ، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن : ( فإما ترين ) ، ( وإما ينزغنك ) ، ( فإما نذهبن ) . قال أبو العباس المهدوي : ( إن ) هي التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل ، ولو سقطت ، يعني ما لم تدخل النون ، فما تؤكد أول الكلام ، والنون تؤكد آخره . وتبعه ابن عطية في هذا فقال : فإن هي للشرط ، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون [ ص: 168 ] المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون . انتهى كلامه . وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت ( إن ) بـ ( ما ) هو مذهب المبرد والزجاج ، زعما أنها تلزم تشبيها بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو : والله لأخرجن . وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ( ما ) بعد ( إن ) ضرورة ، وذهب سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة ، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها ، وإن كان الإثبات أحسن . وكذلك يجوز حذف ( ما ) وإثبات النون ، قال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجئ بـ ( ما ) انتهى كلامه . وقد كثر السماع بعدم النون بعد ( إما ) قال الشنفرى :


فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفى ولا أتنعل



وقال آخر :


يا صاح إما تجدني غير ذي جدة     فما التخلي عن الإخوان من شيمي



وقال آخر :


زعمت تماضر أنني إما أمت     تسدد بنوها الأصاغر خلتي



والقياس يقبله ; لأن ( ما ) زيدت حيث لا يمكن دخول النون ، نحو قول الشاعر :


إما أقمت وإما كنت مرتحلا     فالله يحفظ ما تبقي وما تذر



فكما جاءت هنا زائدة بعد ( إن ) فكذلك في نحو : إما تقم يأتينكم ، مبني مفتوح الآخر . واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء ، أم بني على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين . وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى ( بالتكميل لشرح التسهيل ) .

( مني ) : متعلق بيأتينكم ، وهذا شبيه بالالتفات ; لأنه انتقل من الضمير الموضوع للجمع ، أو المعظم نفسه ، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد . وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في : قلنا ، عند شرح قوله : ( وقلنا ياآدم اسكن ) ، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى ، فناسب الضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى ، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتمل غيره تعالى . وفي قوله : مني ، إشارة إلى أن الخير كله منه ، ولذلك جاء : ( قد جاءكم برهان من ربكم وقد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء ) ، فأتى بكلمة : من ، الدالة على الابتداء في الأشياء ، لينبه على أن ذلك صادر منه ومبتدأ من جهته تعالى ، وأتى بأداة الشرط في قوله : ( فإما يأتينكم مني هدى ) ، وهي تدخل على ما يتردد في وقوعه ، والذي أبهم زمان وقوعه ، وإتيان الهدى واقع لا محالة ; لأنه أبهم وقت الإتيان ، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيد الله تعالى ليس شرطا فيه إتيان رسل منه ، ولا إنزال كتب بذلك ، بل لو لم يبعث رسلا ، ولا أنزل كتبا ، لكان الإيمان به واجبا ، وذلك لما ركب فيهم من العقل ، ونصب لهم من الأدلة ، ومكن لهم من الاستدلال ، كما قال :


وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد



قال معناه الزمخشري غير إنشاد الشعر .

هدى : تقدم الكلام على الهدى في قوله : ( هدى للمتقين ) ، ونكره ; لأن المقصود هو المطلق ، ولم يسبق عهد فيه فيعرف . والهدى المذكور هنا : الكتب المنزلة ، أو الرسل ، أو البيان ، أو القدرة على الطاعة ، أو محمد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أقوال . فمن تبع : الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله : ( فإما يأتينكم ) . وقال السجاوندي : الجواب محذوف تقديره فاتبعوه . انتهى . فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده : ( فمن تبع هداي ) . وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن ( من ) في قوله : ( فمن تبع ) شرطية ، وأن جواب هذا الشرط هو قوله : ( فلا خوف ) ، فتكون الآية فيها [ ص: 169 ] شرطان ، وحكي عن الكسائي أن قوله : ( فلا خوف ) جواب للشرطين جميعا ، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في ( كتاب التكميل ) ، ولا يتعين عندي أن تكون ( من ) شرطية ، بل يجوز أن تكون موصولة ، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه : ( والذين كفروا وكذبوا ) ، فأتى به موصولا ، ويكون قوله : ( فلا خوف ) جملة في موضع الخبر . وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا ، فإن الشروط المسوغة لذلك موجودة هنا .

وفي قوله : ( فمن تبع هداي ) ، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به ، فتكون حركات التابع وسكناته موافقة لمتبوعه ، وهو الهدى ، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن . وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكون فيه لو كان معرفا بالألف واللام ، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله : ( إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) ، والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف ، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف . وقرأ الأعرج : ( هداي ) بسكون الياء ، وفيه الجمع بين ساكنين ، كقراءة من قرأ : ومحياي ، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف . وقرأ عاصم الجحدري وعبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر : ( هديي ) بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم ، إذ لم يمكن كسر ما قبل الياء ; لأنه حرف لا يقبل الحركة ، وهي لغة هذيل ، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم ، وقال شاعرهم :


سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم     فتخرموا ولكل قوم مصرع



( فلا خوف عليهم ) : قرأ الجمهور بالرفع والتنوين ، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن ، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين ، وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في ( ولا هم يحزنون ) ، فرفعوا للتعادل ، قال ابن عطية : والرفع على إعمالها إعمال ليس ، ولا يتعين ما قاله ، بل الأولى أن يكون مرفوعا بالابتداء لوجهين : أحدهما : أن إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) قليل جدا ، ويمكن النزاع في صحته ، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه ، والثاني : حصول التعادل بينهما ، إذ تكون ( لا ) قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما ، ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم ، فينفي كل فرد من مدلول الخوف ، وأما الرفع فيجوزه وليس نصا ، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر . وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) وأنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة الاستعمال ، وقد ذكرنا ما في إعمال ( لا ) عمل ( ليس ) فالأولى أن يكون مبتدأ كما ذكرناه ، إذا كان مرفوعا منونا ، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال ، ويجوز أن يكون عري من التنوين ; لأنه على نية الألف واللام ، فيكون التقدير : فلا الخوف عليهم ، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن العرب : سلام عليكم ، بغير تنوين . قالوا : يريدون السلام عليكم ، ويكون هذا التخريج أولى ، إذ يحصل التعادل في كون ( لا ) دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين ، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس ، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي ، وتأوله النحاة وهو :


وحلت سواد القلب لا أنا باغيا     سواها ولا في حبها متراخيا



وقد لحنوا أبا الطيب في قوله :


فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا



وكنى بقوله : ( عليهم ) عن الاستيلاء والإحاطة ، ونزل المعنى منزلة الجرم ، ونفى كونه معتليا مستوليا عليهم ، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم ؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوف انتفاء الخوف في كل حال ، ولذلك قال بعض المفسرين : ليس في قوله : ( فلا خوف عليهم ) دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة ، [ ص: 170 ] إلا أنها مخففة عن المطيعين ، فإذا صاروا إلى رحمته ، فكأنهم لم يخافوا ، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن ; لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي ، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة في قوله : ( ولا هم يحزنون ) .

وفي قوله : ولا هم يحزنون إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن ، وأن غيرهم يحزن ، ولو لم يشر إلى هذا المعنى لكان ( ولا يحزنون ) كافيا ، ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله : ( إن الذين سبقت لهم ) إلى قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة ) ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختص بالذين سبقت لهم من الله الحسنى ، وفي قوله : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، فدل هذا كله على أن غيرهم يحزنه الفزع ، ولا يذهب عنهم الحزن . وحكي عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال : أحدها : لا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت ، الثاني : لا يتوقعون مكروها في المستقبل ، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب في الماضي والحال ، الثالث : لا خوف عليهم فيما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون فيما خلفه ، الرابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ، الخامس : لا خوف عليهم من عقاب ، ولا هم يحزنون على فوات ثواب ، السادس : إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوات محبوب ، السابع : لا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها ، الثامن : لا خوف عليهم يوم القيامة ، ولا هم يحزنون فيها ، التاسع : أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن ، لا خوف عليهم فيها ولا حزن ، العاشر : ما قاله ابن زيد : لا خوف عليهم أمامهم ، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فأمنهم الله منه ، ثم سلاهم عن الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا ، الحادي عشر : لا خوف حين أطبقت النار ، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط ، فقيل لأهل الجنة والنار : خلود فلا موت ، الثاني عشر : لا خوف ولا حزن على الدوام .

وهذه الأقوال كلها متقاربة ، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم ، لكن يخص بما بعد الدنيا ; لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن ، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموم لذلك .

( والذين كفروا ) قسيم لقوله ( فمن تبع هداي ) وهو أبلغ من قوله : ومن لم يتبع هداي ، وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه ; لأن نفي الشيء يكون بوجوه ، منها : عدم القابلية بخلقة أو غفلة ، ومنها تعمد ترك الشيء ، فأبرز القسيم بقوله : ( والذين كفروا ) في صورة ثبوتية ليكون مزيلا للاحتمال الذي يقتضيه النفي ، ولما كان الكفر قد يعني كفر النعمة وكفر المعصية بين : أن المراد هنا الشرك ، بقوله : وكذبوا بآياتنا ، وبآياتنا متعلق بقوله : وكذبوا ، وهو من إعمال الثاني ، إن قلنا : إن ( كفروا ) يطلبه من حيث المعنى ، وإن قلنا : لا يطلبه ، فلا يكون من الإعمال ، ويحتمل الوجهين ، والآيات هنا : الكتب المنزلة على جميع الأمم ، أو معجزات الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، أو القرآن ، أو دلائل الله في مصنوعاته ، أقوال . وأولئك : مبتدأ ، وأصحاب : خبر عنه ، والجملة خبر عن قوله : والذين كفروا ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلا وعطف بيان ، فيكون ( أصحاب النار ) إذ ذاك ، خبرا عن ( الذين كفروا ) وفي قوله : أولئك أصحاب النار دلالة على اختصاص من كفر وكذب بالنار ، فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة . وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدى لا خوف ولا حزن يلحقه ، وهو صاحب الجنة ، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن ، وهو صاحب النار ، فكأنه حذف من الجملة الأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية ، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى ، فصار نظير قول الشاعر :

[ ص: 171 ]

وإني لتعروني لذاكر فترة     كما انتفض العصفور بلله القطر



وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى الذوات المتصفة بالكفر والتكذيب ، وكأن فيها تكريرا وتوكيدا لذكر المبتدأ السابق . والصحبة معناها : الاقتران بالشيء ، والغالب في العرف أن ينطلق على الملازمة ، وإن كان أصلها في اللغة : أن تنطلق على مطلق الاقتران ، والمراد بها هنا : الملازمة الدائمة ، ولذلك أكده بقوله : هم فيها خالدون ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية ، كما جاء في مكان آخر : أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها ، فيكون إذ ذاك لها موضع من الإعراب نصب ، ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله : أولئك أصحاب النار ، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران ، بل الخلود ، فلا يكون لها إذ ذاك موضع من الإعراب ، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي هو : أولئك ، فيكون قد أخبر عنه بخبرين : أحدهما مفرد ، والآخر جملة ، وذلك على مذهب من يرى ذلك ، فيكون في موضع رفع . وقد تقدم الكلام على الخلود ، وهل هو المكث زمانا لا نهاية له ، أو زمانا له نهاية ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية