الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وأرنا مناسكنا ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في "أرنا" قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو [ ص: 57 ] الناس إلى حجه ، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم ، قال الله تعالى : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) [الفرقان : 45] ، ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) [الفيل : 1] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أظهرها لأعيننا حتى نراها .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الحسن : إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها ، حتى بلغ عرفات ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال : نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل ، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات .

                                                                                                                                                                                                                                            وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معا . وهو قول القاضي لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معا وأنه غير جائز ، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان ، فمن قال بالقول الثاني قال : إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ، ومن قال بالأول قال : إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : النسك هو التعبد ، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكا والذبيحة نسيكة ، وسمي أعمال الحج مناسك . قال عليه السلام : " خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا " . والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى : مناسك أيضا ، ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل ، وبكسر السين بمعنى المواضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب ، قال الله تعالى : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) [الحج : 67] قرئ بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدل على الفعل ، وكذلك قوله عليه السلام : " خذوا عني مناسككم " أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد : خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول : إن حملنا المناسك على مناسك الحج ، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال ، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط ، وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبد ، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكا ، وهو كونه عملا من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال ، فوجب دخول الكل فيه وإن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله : ( وأرنا مناسكنا ) أي علمنا كيف نعبدك ، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات "أرنا" بإسكان الراء في كل القرآن ، ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد ، في حم السجدة ( أرنا الذين أضلانا ) [فصلت : 29] وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن ، والباقون بالكسرة مشبعة ، وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة ، نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ، ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة ، وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم : فخذ وكبد ، وأما [ ص: 58 ] الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية