الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        5972 - حدثنا ربيع بن سليمان المؤذن ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، ويونس بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يكره أن يكري الرجل الأرض من أخيه بالثلث والربع .

                                                        فأما وجه هذا الباب من طريق النظر فإن ذلك كما قد قاله أهل المقالة الأولى : إن ذلك لا يجوز في المزارعة ، والمعاملة ، والمساقاة إلا بالدراهم ، والدنانير ، والعروض .

                                                        وذلك أن الذين قد أجازوا المساقاة في ذلك زعموا أنهم قد شبهوها بالمضاربة ، وهي المال يدفعه الرجل إلى الرجل على أن يعمل به على النصف أو الثلث أو الربع ، فكل قد أجمع على جواز ذلك ، وقام ذلك مقام الاستيجار بالمال المعلوم .

                                                        قالوا : فكذلك المساقاة تقوم النخل المدفوعة مقام رأس المال في المضاربة ، ويكون الحادث عنها من التمر مثل الحادث عن المال من الربح .

                                                        [ ص: 116 ] فكانت حجتنا عليهم في ذلك أن المضاربة إنما يثبت فيها الربح بعد سلامة رأس المال ، ووصوله إلى يدي رب المال ، ولم ير المزارعة ولا المساقاة فعل ذلك فيهما .

                                                        ألا ترى أن المساقاة في قول من يجيزها لو أثمرت النخل فجر عنها الثمر ، ثم احترقت النخل ، وسلم الثمر ، كان ذلك الثمر بين رب النخل ، والمساقي على ما اشترطا فيها .

                                                        ولم يمنع من ذلك عدم النخل المدفوعة كما يمنع عدم رأس المال في المضاربة من الربح .

                                                        وكانت المساقاة والمزارعة إذا عقدتا لا إلى وقت معلوم كانتا فاسدتين ، ولا تجوزان إلا إلى وقت معلوم .

                                                        وكانت المضاربة تجوز لا إلى وقت معلوم ، وكان المضارب له أن يمتنع بعد أخذه المال مضاربة من العمل بذلك متى أحب ، ولا يجبر على ذلك ، وقد كان لرب المال أيضا أن يأخذ المال من يده متى أحب ، شاء ذلك المضارب أو أبى .

                                                        وليست المساقاة ، ولا المزارعة كذلك ؛ لأنا رأينا المساقي إذا أبى العمل بعد وقوع عقد المساقاة أجبر على ذلك ، وإن أراد رب النخل أخذها منه ونقض المساقاة ، لم يكن ذلك له حتى تنقضي المدة التي قد تعاقدا عليها .

                                                        فكان عقد المضاربة عقدا لا يوجب إلزام واحد من رب المال ولا من المضارب ، وإنما يعمل المضارب بذلك المال ما كان هو ورب المال متفقين على ذلك .

                                                        وكانت المساقاة يجبر على الوفاء بما يوجبه عقدها كل واحد من رب النخل ومن المساقي .

                                                        وأشبهت المضاربة الشركة فيما ذكرنا ، وأشبهت المساقاة الإجارة فيما قد وصفنا .

                                                        ثم إنا قد رجعنا إلى حكم الإجارة كيف ؟ لنعلم بذلك كيف حكم المساقاة التي قد أشبهتها من حيث ما وصفنا .

                                                        فرأينا الإجارات تقع على وجوه مختلفة .

                                                        فمنها إجارات على بلوغ مساقاة معلومة بأجر معلوم فهي جائزة ، وهذا وجه من الإجارات .

                                                        ومنها ما يقع على عمل معلوم مثل خياطة هذا القميص وما أشبه ذلك بأجر معلوم فيكون ذلك أيضا جائزا .

                                                        ومنها ما يقع على مدة معلومة كالرجل يستأجر الرجل على أن يخدمه شهرا بأجر معلوم فذلك جائز أيضا .

                                                        فاحتيج في الإجارات كلها إلى الوقوف على ما قد وقع عليها منها العقد ، فلم يجز في جميع ذلك إلا على شيء معلوم ، إما مساقاة معلومة ، وإما عمل معلوم ، وإما أيام معلومة ، وقد كانت هذه الأشياء المعلومة في نفسها لا يجوز أن يكون أبدالها مجهولة بل قد جعل حكم أبدالها كحكمها .

                                                        فاحتيج أن تكون معلومة كما أن الذي هو بدل من ذلك يحتاج أن يكون معلوما ، وقد كانت المضاربة [ ص: 117 ] تقع على عمل بالمال غير معلوم ، ولا إلى وقت معلوم ، فكان العمل فيها مجهولا ، والبدل من ذلك مجهول .

                                                        فقد ثبت في هذه الأشياء التي وصفنا من الإجارات والمضاربات أن حكم كل واحد منها حكم بدله .

                                                        فما كان بدله معلوما فلا يجوز أن يكون في نفسه إلا معلوما ، وما كان في نفسه غير معلوم فجائز أن يكون بدله غير معلوم .

                                                        ثم رأينا المساقاة ، والمزارعة ، والمعاملة ، لا يجوز واحدة منها إلا إلى وقت معلوم في شيء معلوم .

                                                        فالنظر على ذلك أن لا يجوز البدل منها إلا معلوما ، وأن يكون حكمها كحكم البدل منها ، كما كان حكم الأشياء التي ذكرنا من الإجارات والمضاربات حكم أبدالها .

                                                        فقد ثبت بالنظر الصحيح أن لا تجوز المساقاة ولا المزارعة إلا بالدراهم ، والدنانير ، وما أشبههما من العروض .

                                                        وهذا كله قول أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا الباب .

                                                        وأما أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن رحمهما الله فإنهما قد ذهبا إلى جوازهما جميعا ، وتركا النظر في ذلك ، واتبعا ما قد روينا في هذا الباب من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أصحابه بعده ، وقلداها في ذلك .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية