الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز البيع إلا بثمن معلوم الصفة ، فإن باع بثمن مطلق في موضع ليس فيه نقد متعارف ، لم يصح البيع ، لأنه عوض في البيع ، فلم يجز مع الجهل بصفته كالمسلم فيه ، فإن باع بثمن معين تعين ، لأنه عوض فتعين بالتعيين كالمبيع فإن لم يره المتعاقدان أو أحدهما فعلى ما ذكرناه من القولين في بيع العين التي لم يرها المتبايعان أو أحدهما ) .

                                      [ ص: 399 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 399 ] الشرح ) قوله : عوض في البيع احتراز من الثواب في الهبة على أحد القولين ، قال أصحابنا : يشترط كون الثمن معلوم الصفة ، فإن قال : بعتك هذه الدار ، أو قال : بهذه الدنانير ، أو قال : بهذه الدراهم ، وهي مشاهدة لهما ، صح البيع ، سواء علما قدرها أم لا ، وقد سبقت المسألة عند مسألة بيع الصبرة جزافا ، وإن قال : بعتك بالدينار الذي في بيتي أو في همياني ، أو الدرهم الذي في بيتي ، فإن كان قد رأياها قبل ذلك صح البيع ، وإلا ففيه الخلاف في بيع العين الغائبة ( أما ) إذا قال : بعتك بدينار في ذمتك ، أو قال : بعشرة دراهم في ذمتك ، أو أطلق الدراهم فلا خلاف أنه يشترط العلم بنوعها ، فإن كان في البلد نقد واحد أو نقود ، لكن الغالب واحد منها ، انصرف العقد إلى ذلك النقد الواحد أو الغالب ، وإن كان فلوسا انصرف إليها عند الإطلاق ، صرح به البغوي والرافعي وغيرهما ، فإن عين غير ذلك في العقد تعين .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا في باب زكاة الذهب والفضة في جواز المعاملة بالدراهم المغشوشة ، أنها إن كان الغش معلوم القدر صحت المعاملة بها قطعا ، فإن كان مجهولا فأربعة أوجه ( أصحها ) تصح المعاملة بها معينة وفي الذمة ( والثاني ) لا تصح ( والثالث ) تصح معينة ولا تثبت في الذمة بالبيع ، ولا بغيره ( والرابع ) إن كان الغش غالبا لم تصح ، وإلا فتصح ، وذكر هناك توجيه الأوجه وتفريعها وفوائدها ، قال أصحابنا : فإن قلنا بالصحيح وهو الصحة مطلقا انصرف إليها العقد عند الإطلاق ، ولو باع بمغشوش ثم بان أن فضته ضئيلة جدا فله الرد على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وحكى الصيمري عن شيخه أبي العباس المصري أنه كان يقول فيه وجهان ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) لا خيار ، لأن غشها معدوم في الأصل ، وحكى هذا الوجه أيضا صاحب البيان والرافعي وغيرهما .

                                      ( فرع ) إذا كان في البلد نقدان أو نقود . لا غالب فيها ، لم يصح [ ص: 400 ] البيع هناك حتى يعين نقدا منها ، وهذا لا خلاف فيه ، لأنه ليس بعضها أولى من بعض .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : وتقويم المتلف يكون بغالب نقد البلد ، فإن كان فيه نقدان فصاعدا ولا غالب فيها عين القاضي واحدا للتقويم بلا خلاف .

                                      ( فرع ) لو غلب من جنس العروض نوع ، فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق ؟ فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين ( أصحهما ) ، ينصرف كالنقد ( والثاني ) لا ، لأن النقد لا يختلف الغرض فيه ، بخلاف العرض ، وصورة المسألة أن يبيع صاعا من الحنطة بصاع منها ، أو شعير في الذمة ، وتكون الحنطة والشعير الموجودان في البلد صنفا معروفا أو غالبا لا يختلف ، ثم يحضره بعد العقد ويسلمه في المجلس .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : كما ينصرف العقد عند الإطلاق إلى العقد الغالب من حيث النوع ينصرف إليه أيضا من حيث الصفة ، فإذا باع بدينار أو دنانير ، والمعهود في البلد الدنانير الصحاح انصرف إليها ، وإن كان المعهود المكسرة انصرف إليها ، كذا نقله الصيمري وصاحب البيان عن الأصحاب ، قالا : إلا أن تتفاوت قيمة المنكس ، فلا يصح ، قال الرافعي : وعلى هذا القياس لو كان المعهود أن يؤخذ نصف الثمن من هذا ونصفه من ذاك أو أن يؤخذ على نسبة أخرى ، فالبيع صحيح محمول على ذلك المعهود ، وإن كان المعهود التعامل بهذا مرة وبهذا مرة ، ولم يكن بينهما تفاوت ، صح البيع وسلم ما شاء منهما ، وإن كان بينهما تفاوت لم يصح البيع ، كما لو كان في البلد نقدان غالبان وأطلق . ولو قال : بعتك بألف صحاح ومكسرة فوجهان ( أصحهما ) بطلان البيع لعدم بيان قدر الصحيح والمكسرة ( والثاني ) صحته ، ويحمل على [ ص: 401 ] النصف ، قال الرافعي : ويشبه أن يجيء هذا الوجه فيما إذا قال : بعتك بألف مثقال ذهب وفضة ( قلت : ) لا جريان له هناك ، والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة فيعظم الغرر . وإن قال : بعتك بألف درهم مسلمة أو منقية لم يصح ، لأنه ليس لها عادة مضبوطة ، ذكره الصيمري وصاحب البيان ( فرع ) قال أصحابنا : لو قال : بعتك بدينار صحيح فأحضر صحيحين وزنهما مثقال ، لزمه قبولهما ، لأن الغرض لا يختلف بذلك ، وإن أحضر صحيحا وزنه مثقال ونصف ، قال صاحب التتمة : لزمه قبوله ، وتبقى الزيادة أمانة في يده ، والصواب الذي عليه المحققون أنه لا يلزمه قبوله لما في الشركة من الغرر .

                                      وقد جزم صاحب البيان وآخرون بأنه لا يلزمه قبوله فلو تراضيا جاز ، ثم إن أراد أحدهما كسره وامتنع الآخر لم يجز البيع ، لما في هذه القسمة من الضرر . قال أصحابنا : ولو باع بنصف دينار صحيح بشرط كونه مدورا جاز إن كان يعم وجوده هناك فإن لم يشترط كونه مدورا وكان وزنه نصف مثقال - فإن سلم إليه صحيحا أكثر من نصف مثقال وتراضيا بالشركة فيه - جاز فإن امتنع أحدهما لم يجز لما ذكرناه ولو باعه شيئا بنصف دينار صحيح ، ثم باعه شيئا آخر بنصف دينار صحيح ، فإن سلم صحيحا عنهما فقد زاده خيرا ، وإن سلم قطعتين وزن كل واحدة نصف دينار جاز ، فلو شرط في العقد الثاني تسليم صحيح عنهما فالعقد الثاني باطل ( وأما الأول ) فإن كان الشرط بعد لزومه فهو ماض على الصحة ، ويلزمه نصف هو شق ، وإن كان قبل لزومه فهو إلحاق شرط فاسد بالعقد في زمن الخيار ، والأصح أنه يلحق فيبطل العقد الأول أيضا ، والله سبحانه أعلم .

                                      قال الصيمري وصاحب البيان : وإن قال : بعتك هذا الثوب بنصفي دينار ، لزمه تسليم دينار مضروب ، لأن ذلك عبارة عن دينار ، وإن قال : [ ص: 402 ] بعتكه بنصف دينار وثلث دينار وسدس دينار ، لم يلزمه دينار صحيح ، بل له دفع شق من كل وزن .

                                      ( فرع ) لو باع بنقد قد انقطع من أيدي الناس فالعقد باطل لعدم القدرة على التسليم ، فإن كان لا يوجد في ذلك البلد ، ويوجد في غيره ، فإن كان الثمن حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن نقله فيه فالعقد باطل أيضا ، وإن كان مؤجلا إلى مدة يمكن نقله فيها صح البيع ثم إن حل الأجل وقد أحضره فذاك ، وإلا فينبني على أن الاستبدال على الثمن هل يجوز ؟ ( إن قلنا : ) لا ، فهو كانقطاع المسلم فيه ( وإن قلنا ) نعم استبدل ولا ينفسخ العقد على المذهب وفيه وجه ضعيف أنه ينفسخ ( أما ) إذا كان يوجد في البلد ولكنه عزيز ، فإن جوزنا الاستبدال صح العقد ، فإن وجد فذاك وإلا فيستبدل وإن لم نجوزه لم يصح ( أما ) إذا كان النقد الذي جرى به التعامل موجودا ثم انقطع فإن جوزنا الاستبدال استبدل وإلا فهو كانقطاع المسلم فيه والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) لو باع بنقد معين أو مطلق ، وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة بذلك النقد لم يكن للبائع إلا ذلك النقد ، هذا هو المذهب وقد سبقت المسألة في هذا الباب في فرع من مسائل كيفية القبض ، وذكرنا فيها أوجهها وتفاريعها .

                                      ( فرع ) قال صاحب البيان : قال الصيمري : إذا باعه بنقد في بلد ثم لقيه ببلد آخر لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد فدفع إليه النقد المعقود عليه فامتنع من قبضه ، فهل له الامتناع ؟ فيه ثلاثة أوجه ( الصحيح ) ليس له الامتناع ، بل يجبر على أخذه ، لأنه المعقود عليه ، كما لو باعه بحنطة فلم يقبضها حتى رخصت ( والثاني ) لا يجبر على أخذها ، وله الامتناع [ ص: 403 ] منه ، كما لو سلم إليه في موضع مخوف ( والثالث ) إن كان البلد الذي يدفعه فيه لا يتعامل الناس فيه بذلك النقد : لم يجبر عليه ، وإن كانوا يتعاملون به بوكس لزمه أخذه وأجبر عليه .

                                      ( فرع ) إذا باعه بثمن معين تعين الثمن ، وقال أبو حنيفة : لا يتعين ، وكذا لو عينا في الإجارة أو الصداق أو الخلع أو غيرها من العقود دراهم أو دنانير تعينت بالتعيين عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا تتعين الدراهم والدنانير في العقود كلها ، وتظهر فائدة الخلاف في مسائل : ( منها ) لو تلفت تلك الدراهم قبل القبض انفسخ العقد ، ولا ينفسخ عنده .

                                      ( ومنها ) لو أراد أن يمسك تلك ويدفع بدلها لم يكن له ذلك عندنا ، ويجوز عنده .

                                      ( ومنها ) لو وجد بتلك الدراهم عيبا وردها انفسخ العقد ، وليس له طلب البدل ، وعنده له ذلك .

                                      ( ومنها ) لو أراد أن يأخذ عنها عوضا من القبض لا يجوز عندنا كالقبض ، وعنده يجوز ، واحتج أبو حنيفة بأن المقصود من الدراهم والدنانير رواجها لا عينها ، وغير المعين يعمل عمل المعين ، واحتج أصحابنا بالقياس على السلعة فإنها تتعين بالإجماع وبالقياس على الغصب ، فإن الدراهم والدنانير تتعين فيه بالإجماع ، وبالقياس على ما لو أخذ صاعا من صبرة فباعه بعينه ، فإنه يتعين بالإجماع ، ولا يجوز أن يعطي صاعا آخر بدله من تلك الصبرة مع أنه يعمل عمله ، ولأنه قصد بالتعيين أن لا يتعلق الثمن بذمته فلا يجوز تعليقه بها .




                                      الخدمات العلمية