الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في القراءة في المغرب

                                                                                                          308 حدثنا هناد حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن أمه أم الفضل قالت خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات قالت فما صلاها بعد حتى لقي الله قال وفي الباب عن جبير بن مطعم وابن عمر وأبي أيوب وزيد بن ثابت قال أبو عيسى حديث أم الفضل حديث حسن صحيح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل وروي عن أبي بكر الصديق أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل قال وعلى هذا العمل عند أهل العلم وبه يقول ابن المبارك وأحمد وإسحق وقال الشافعي وذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات قال الشافعي لا أكره ذلك بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( عن أمه أم الفضل ) اسمها لبابة بنت الحارث الهلالية ، ويقال إنها : أول امرأة أسلمت بعد خديجة ، قاله الحافظ .

                                                                                                          [ ص: 187 ] قوله : ( وهو عاصب رأسه ) أي شاد رأسه بعصابة ( فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات ) قال الحافظ في الفتح : وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات ، لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف ، وهو يرد على أبي داود ادعاءه نسخ التطويل ; لأنه روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار ، قال : وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة ، وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه ، حمله على أنه اطلع على ناسخه ، ولا يخفى بعد هذا الحمل ، وكيف تصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول : إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات ، انتهى كلام الحافظ ( فما صلاها بعد حتى لقي الله عز وجل ) وقد ثبت من حديث عائشة أي آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته الظهر ، رواه البخاري في باب : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، جمع الحافظ في الفتح بين هذين الحديثين بأن عائشة حكت آخر صلاة صلاها في المسجد لقرينة قولها بأصحابه . والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته ، كما روى ذلك النسائي ولكنه يشكل على ذلك ما أخرجه الترمذي عن أم الفضل بلفظ : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب . ويمكن حمل قولها : خرج إلينا ، أنه خرج من مكانه الذي كان فيه راقدا إلى من في البيت ، انتهى ملخصا .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن جبير بن مطعم وابن عمر وأبي أيوب وزيد بن ثابت ) أما حديث جبير بن مطعم فأخرجه الشيخان بلفظ : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور . وأما حديث ابن عمر فأخرجه ابن ماجه بلفظ : قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد وأما حديث أبي أيوب فأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين جميعا . وأما حديث زيد بن ثابت فأخرجه البخاري بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بطولى الطوليين ، زاد أبو داود : قلت : وما طولى الطوليين ؟ قال : الأعراف .

                                                                                                          قوله : ( حديث أم الفضل حديث حسن صحيح ) أخرجه الأئمة الستة ( وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين كلتيهما ) روى النسائي عن عائشة قالت : إن رسول [ ص: 188 ] الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف ، فرقها في الركعتين . قال ميرك : إسناده حسن ، وروي هذا عن أبي أيوب أيضا وقد تقدم لفظه ( وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور ) رواه الشيخان وغيرهما عن جبير بن مطعم وتقدم لفظه ( وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل ) تقدم تخريجه ( وروي عن أبي بكر أنه قرأ في المغرب بقصار المفصل ) لم أقف على من أخرجه .

                                                                                                          قوله : ( وعلى هذا العمل عند أهل العلم ) يعني على القراءة بقصار المفصل في المغرب ، وبه يقول الحنفية ، واستدلوا على ذلك بما روى الطحاوي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وبما روى ابن ماجه عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد وبما روى الطحاوي وغيره عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وبما روى أبو داود عن هشام بن عروة أن أباه كان يقرأ في صلاة المغرب بنحو ما تقرءون والعاديات ونحوه من السور . وروي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بـ قل هو الله أحد ، وبما رواه الشيخان عن رافع بن خديج ، قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله ( وقال الشافعي ) مقولة قوله الآتي : لا أكره ذلك إلخ ( وذكر عن مالك أنه يكره إلخ ) الواو للحال والجملة حالية ( قال الشافعي : لا أكره ذلك بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب ) أعاد قوله قال الشافعي لطول الفصل بينه وبين مقوله لا أكره ذلك إلخ . قال الحافظ في الفتح : قال الترمذي : ذكر عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات ، وقال الشافعي : لا أكره ذلك بل أستحب ، وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي . والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك ولا [ ص: 189 ] استحباب . وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها . قال ابن دقيق العيد : استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب . والحق عندنا أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وثبت مواظبته عليه فهو مستحب ، وما لا يثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه .

                                                                                                          قال الحافظ : ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص ، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة : فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول . قال الدارقطني أخطأ فيه بعض رواته . وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك ، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب . واعتمد بعض مشايخنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة أنه قال : ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان ، قال سليمان : فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل وفي المغرب بقصار المفصل الحديث . أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره . وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك ، ولكن في الاستدلال به نظر . نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها . وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يدل على تخفيف القراءة فيها . وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب ، إما لبيان الجواز وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين : وليس في حديث جبير بن مطعم ( أي الذي أخرجه البخاري بلفظ : قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور دليل على أن ذلك تكرر منه . وأما حديث زيد بن ثابت يعني ما روى البخاري وغيره عن مروان بن الحكم ، قال : قال لي زيد بن ثابت : ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين ، ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل ، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك ليحتج به على زيد ، لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال ، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه ، وهو مظنة التخفيف ، انتهى كلامه .

                                                                                                          قال ابن خزيمة في صحيحه : هذا من الاختلاف المباح ، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف في القراءة كما [ ص: 190 ] تقدم ، انتهى . قال الحافظ : وهذا أولى من قول القرطبي : ما ورد في مسلم وغيره من تطويل القراءة فيما استقر عليه التقصير أو عكسه فهو متروك . وادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث الثلاثة على تطويل القراءة ، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة ، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ : فسمعته يقول إن عذاب ربك لواقع قال : فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة ، انتهى .

                                                                                                          وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة ، بل جاء في روايات أخرى ما يدل على أنه قرأ السورة كلها ، فعند البخاري في التفسير سمعته يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون الآيات إلى قوله : المصيطرون كاد قلبي يطير . ونحوه لقاسم بن أصبغ وفي رواية أسامة ومحمد بن عمرو المتقدمتين سمعته يقرأ والطور وكتاب مسطور ومثله لابن سعد ، وزاد في أخرى فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد .

                                                                                                          ، ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت ، وكذا أبداه الخطابي احتمالا ، وفيه نظر ; لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى ، وقد روي حديث زيد عن هشام عن أبيه عنه أنه قال لمروان : إنك لتخف القراءة في الركعتين من المغرب ، فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعا ، أخرجه ابن خزيمة ، واختلف على هشام في صحابيه ، والمحفوظ عن عروة أنه زيد بن ثابت ، وقال أكثر الرواة عن هشام عن زيد بن ثابت أو أبي أيوب ، وقيل عن عائشة أخرجه النسائي مقتصرا على المتن دون القصة ، انتهى كلام الحافظ .




                                                                                                          الخدمات العلمية