الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإن منكم لمن ليبطئن الخطاب لمجموع المؤمنين في الظاهر وفيهم المنافقون وضعاف [ ص: 207 ] الإيمان والجبناء وهم الأقل ، فالمنافقون يرغبون عن الحرب لأنهم لا يحبون بقاء الإسلام وأهله فيدافعوا عنه ويحموا بيضته ، فكان هؤلاء يبطئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه ، والآخرون يبطئون بأنفسهم فقط ، والتبطؤ يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء معا ، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير .

                          قال الأستاذ : أي : يبطئ هو عن السير إبطاء لضعف في إيمانه ، والإتيان بصيغة التشديد للمبالغة في الفعل وتكراره ، وليس معناه أن يحمل غيره على البطء ، فإن الخطاب للمؤمنين وهذا لا يصدر عن مؤمن ، ويقال في اللغة : " بطأ " بالتشديد ( لازم ) بمعنى أبطأ وقد شرح الله حال هذا القسم من الضعفاء توبيخا لهم وإزعاجا إلى تطهير نفوسهم وتزكيتها فقال :

                          فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا فشكره لله على عدم شهوده لتلك الحرب دليل على ضعف إيمانه ولئن أصابكم فضل من الله كالظفر والغنيمة ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما أي ليقولن قول من ليس منكم ، ولا جمعته مودة بكم : يا ليتني كنت معهم فأفوز بذلك الفضل فوزهم ، فهو قد نسي أنه كان أخا لكم ، وكان من شأنه أن يخرج معكم ، وما منعه أن يخرج إلا ضعف إيمانه ، ثم إن تمنيه بعد الظفر أو الغنيمة لو كان معكم دليل على ضعف عقله وكونه ممن يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وهم الذين تشير إليهم الآية التالية .

                          هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في الآية وهو أحد قولين للمفسرين ، رجحوه بكون الخطاب للذين آمنوا ثم بقوله : وإن منكم ولم يقل : " فيكم " ، وبما في معناه من قوله : يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( 9 : 38 ) .

                          والقول الثاني : أن هؤلاء المبطئين هم المنافقون ; لأن هذه الصفات لا تكون إلا لهم ، فإن المؤمن مهما كان ضعيف الإيمان لا يقول هذا القول عند مصيبة المؤمنين ، ولا يعد من نعم الله عليه أنه لم يكن معهم شهيدا ، بل يستحي من الله - عز وجل - ويلوم نفسه إن أطاعت داعي الجبن ويستغفر ربه من ذلك ، ولا يكون شديد الشره والحرص على المشاركة في الفوز والغنيمة ، فالآية في المنافقين سواء كان التبطؤ فيها لازما بمعنى الإبطاء أو متعديا بمعنى حمل الناس عليه ، وقد أسند الله - تعالى - كلا المعنيين إلى المنافقين في عدة آيات ، والظاهر هنا معنى الإبطاء عن الخروج ; إذ لو بطأ غيره وخرج هو لكان قد شهد الحرب فلا معنى لسروره إذا أصيبوا ، ولا لتمنيه لو كان معهم إذا ظفروا ، ويصح أن يقال : إن من أبطأ يبطئ غيره بإبطائه إذ يكون قدوة رديئة لمثله من منافق أو جبان ، ويبطئه أيضا بقوله حتى لا ينفرد [ ص: 208 ] بهذا الذنب ، فإن الفضيحة والمؤاخذة على المنفرد أشد ، وإذا كثر المذنبون يتعسر أو يتعذر عقابهم ، ولأجل هذا تتألف العصابات في هذا الزمان للأعمال التي يعاقب عليها الحكام ، ولفظ التبطئ يدل على كونه يبطئ غيره بسبب إبطائه ، فهو أبلغ من غيره .

                          هؤلاء الذين اختاروا أن المبطئ هو المنافق قد أجابوا عن جعله من المؤمنين بقوله - تعالى - لهم : منكم بأنه منهم بالزعم والدعوى أو في الظاهر دون الباطن ; لأنه كان يعامل معاملة المؤمنين وتجري عليه أحاكمهم ، وزاد بعضهم وجها ثالثا وهو أنه منهم في الجنس والنسب والاختلاط وليس بشيء .

                          يجزم هؤلاء بأن الإيمان ينافي ما ذكر من التبطئ عن القتال بكل من معنييه مع ذينك القولين عند المصيبة ، وعند الظفر والغنيمة ، فإن من يبطئ ويقول ذلك لا يكون له هم ولا عناية بأمر دينه ، وإنما أكبر همه شهواته وربحه من الدين حتى إنه يعد مصيبة المسلمين نعمة إذا لم يصبه سهم منها ، فليحاسب المسلمون في هذا الزمان أنفسهم ، وليزنوا بهذه الآيات إيمانهم .

                          ثم إن قوله تعالى : كأن لم تكن بينكم وبينه مودة جملة معترضة بين القول ومقوله ، وذكر المودة هنا نكرة منفية في سياق التشبيه في أوج البلاغة الأعلى فهي كلمة لا تدرك شأوها أخرى ولا تنتهي إلى غورها في التأثير ، ذلك بأن قائل ذلك القول الذي لا يقوله من كان بينه وبين المؤمنين مودة ما معدود من المؤمنين الذين هم بنص كتاب الله إخوة بعضهم أولياء بعض ، وبنص حديث رسول الله : تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ، وهم كأعضاء الجسم الواحد ، وكالبنيان يشد بعضه بعضا ، فإذا كان هذا مكان كل مؤمن من سائر المؤمنين ، فكيف يصدر عن أحد منهم مثل ذلك القول وذلك التمني الذي يشعر بأن صاحبه لا يرى نعمة الله وفضله على المؤمنين نعمة وفضلا عليه ، وهو لا يعقل أن يصدر عمن كان بينه وبينهم مودة ما ولو قليلة في زمن ما ولو بعيدا ، أعني أن قليلا من المودة كان في وقت ما ينبغي أن يمنع عن مثل ذلك التمني ، وفي هذا من التقريع والتوبيخ بألطف القول وأرق العبارة ما لا يقدر على مثله بلغاء البشر ، ومن فوائده : أن يؤثر في نفس من يذوقه التأثير الذي لا يدنو من مثله النبز بالألقاب والطعن بهجر القول ، التأثير الذي يحمل صاحبه على التأمل والتفكر في حقيقة حاله ، ومعاتبة نفسه ، فإن كان فيه بقية من الرجاء تاب إلى ربه ورجع كله إلى حقيقة دينه ، هذه هي فائدة تلك الجملة المعترضة ، وبالله ما أعجب التشبيه فيها ونفي الكون وتنكير المودة إنك إن تعط ذلك حقه من التأمل ، ويؤتك ذوق الكلام قسطه من البلاغة ، فقد أوتيت آية من آيات الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوقين ، وكشف لك عن سر من أسرار عجز البشر عن الإتيان بمثل هذا الكتاب المبين .

                          [ ص: 209 ] قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ( كأن لم تكن ) بالتاء ، والباقون " يكن " بالياء ، ومثل ذلك معروف في التنزيل وكلام العرب ، فتأنيث الفعل هو الأصل لأن المسند إليه مؤنث ، ولكن التأنيث فيه لفظي لا حقيقي ، ولهذا جاز تذكير الفعل وحسن ، ويكثر مثله ولا سيما في حال الفصل أي : إذا فصل بين الفعل وفاعله أو اسمه فاصل ، ومن الأول قوله قد جاءتكم موعظة من ربكم ( 10 : 57 ) ، ومن الثاني : فمن جاءه موعظة من ربه ( 2 : 275 ) ، ذكر الفعل ، وقد فصل بينه وبين فاعله بالضمير الذي هو المفعول .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية