الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 2 - بيوع الثنيا ]

وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها ، ( أعني : هل تدخل تحت النهي عن الثنيا ، أو ليست تدخل ؟ ) .

فمن ذلك : أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها ، فجمهور فقهاء الأمصار مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري على أنه لا يجوز; وقال أحمد ، وأبو ثور ، وداود : ذلك جائز ، وهو مروي عن ابن عمر . [ ص: 527 ] وسبب الخلاف : هل المستثنى مبيع مع ما استثني منه ، أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع ؟ فمن قال : مبيع قال : لا يجوز ، وهو من الثنيا المنهي عنها ، لما فيها من الجهل بصفته ، وقلة الثقة بسلامة خروجه; ومن قال : هو باق على ملك البائع أجاز ذلك .

وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا ، واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا ، أو معينا ، أو مقدرا ، فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه . وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين ، أو يكون غير مغيب ، فإن كان مغيبا فلا يجوز ، وإن كان غير مغيب كالرأس ، واليد ، والرجل ، فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه ، أو لا يكون ، فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز ، لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله ، لأن حقه غير متميز ، ولا متبعض ، وذلك مما لا خلاف فيه ، وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه ، فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح ، ففي المذهب فيه قولان : أحدهما أنه لا يجوز وهو المشهور; والثاني يجوز ، وهو قول ابن حبيب : جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس . وأما إذا لم يكن للمستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب ، ووجه قول مالك إنه كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد عنه . ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما ، فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله ، والجوز في قشره .

وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوظا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور ، فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما المنع ، وهي رواية ابن وهب ; والثانية الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط ، وهي رواية ابن القاسم .

وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه ، واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها . واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثني من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع ، لأنه بيع ما لم يره المتبايعان .

واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثني منه عدة نخلات بعد البيع ، فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل; وروي عن مالك إجازته; ومنع ابن القاسم قوله في النخلات ، وأجازه في استثناء الغنم . وكذلك اختلف قول مالك ، وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ، ومنعه ابن القاسم .

وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيله من حائط; قال أبو عمر بن عبد البر : فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم ، وألفت الكتاب على مذاهبهم لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع ، لأنه استثناء مكيل من جزاف; وأما مالك ، وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه ، وحملوا النهي على الثنيا على ما فوق الثلث ، وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ، ويستثنى منها كيل ما ، وهذا الأصل أيضا مختلف فيه ، ( أعني : إذا استثني منها كيل معلوم ) .

[ ص: 528 ] واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد ، فأجازه مالك ، وأصحابه ، ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي ، لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا ، ومالك يقول : إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا ، وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة .

وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا . واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة ، فمرة أجاز ذلك ، ومرة منعه ، وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها ، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها ، ومن لم تقو عنده أجازها ، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد ، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها ، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا ، ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير .

التالي السابق


الخدمات العلمية