الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر، وتثبيتها في النفوس، وتعميقها في الكيان البشري، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات.. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها..

                                                                                                                                                                                                                                      يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب.. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء.. والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة; وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم، هؤلاء الأتباع في الدنيا ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:

                                                                                                                                                                                                                                      ... ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله. وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم، وهو على كل شيء قدير ..

                                                                                                                                                                                                                                      من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. أولئك الذين خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى [ ص: 1847 ] ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين ... فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وملئه، فاتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود. وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود! ...

                                                                                                                                                                                                                                      ... إلخ... إلخ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ; من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة; ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:

                                                                                                                                                                                                                                      وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم. حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. وقال: اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم. وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء! قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. وقيل: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وقضي الأمر واستوت على الجودي، وقيل: بعدا للقوم الظالمين ... إلخ ... إلخ ...إلخ...

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء; فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب، المتحدين للنذر في استهتار.. يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم; وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم; وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم; وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:

                                                                                                                                                                                                                                      ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن: ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، ثم نزعناها منه، إنه ليئوس كفور. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن: ذهب السيئات عني، إنه لفرح فخور. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة; وصور المكذبين فيها; ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله; وما يجدونه يومئذ من خزي; لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم! ألا لعنة الله على الظالمين! الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. [ ص: 1848 ] أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أولئك الذين خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون .

                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك ... عطاء غير مجذوذ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور; بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه، ولا علمه المحيط; ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا، وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق; من حيث لا يشعرون:

                                                                                                                                                                                                                                      إلى الله مرجعكم، وهو على كل شيء قدير. ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه! ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، إنه عليم بذات الصدور. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة، في صراحة وفي صرامة، وفي ثقة وطمأنينة ويقين.. وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان; ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة.. يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء..

                                                                                                                                                                                                                                      وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة ...

                                                                                                                                                                                                                                      ... والله المستعان...

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية