الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب مواقيت الصلاة عن سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم وعن الأعرج عن أبي هريرة مثله وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبردوا عن الحر في الصلاة فذكره وليس في حديث أبي هريرة ذكر للظهر فيدخل في عمومه الإبراد بالجمعة وللبخاري من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد الحر أبرد بالصلاة ، وإذا اشتد البرد بكر بالصلاة يعني الجمعة وله من حديث أبي سعيد أبردوا بالظهر ؛ وفي علل الخلال في حديث أبي سعيد " من فوح جهنم " قال أحمد : لا أعرف أحدا قال فوح غير الأعمش وللشيخين من حديث أبي ذر أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبرد أبرد ، وقال : انتظر انتظر ، وقال : شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، حتى رأينا فيء التلول ، وفي طريق للبخاري أن ذلك كان في سفر وفيه حتى ساوى الظل التلول .

                                                            التالي السابق


                                                            (باب مواقيت الصلاة) عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم .

                                                            [ ص: 151 ] وعن الأعرج عن أبي هريرة مثله وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبردوا عن الحر في الصلاة فذكره ، فيه فوائد :

                                                            (الأولى) فيه استحباب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر وهو تأخيرها إلى أن يبرد الوقت وينكسر وهج الحر ، وبه قال الأئمة الأربعة وجمهور العلماء من السلف ، والخلف لكن أكثر المالكية على اختصاص الإبراد بالجماعة .

                                                            فأما المنفرد فتقديم الصلاة في حقه أفضل ، وكذا قال ابن حزم الظاهري : إنه يختص الإبراد بالجماعة وحكى ابن القاسم عن مالك أن الظهر تصلى إذا فاء الفيء ذراعا في الشتاء ، والصيف للجماعة ، والمنفرد على ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله وقال ابن عبد الحكم وغيره معنى كتاب عمر مساجد الجماعة فأما المنفرد فأول الوقت أولى به .

                                                            قال ابن عبد البر وإلى هذا مال الفقهاء المالكيون من البغداديين ولم يلتفتوا إلى رواية ابن القاسم انتهى .

                                                            وقال الشافعي : إنما يستحب الإبراد في شدة الحر بشروط :

                                                            (الأول) أن يكون في بلد حار وقال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره يستحب في البلاد المعتدلة ، والباردة أيضا إذا اشتد الحر .

                                                            (الثاني) أن تصلى في جماعة فلو صلى منفردا فتقديم الصلاة له أفضل .

                                                            (الثالث) أن يقصد الناس الجماعة من بعد فلو كانوا مجتمعين في موضع صلوا في أول الوقت .

                                                            (الرابع) أن لا يجدوا كنا يمشون تحته يقيهم الحر ، فإن اختل شرط من هذه الشروط فالتقديم أفضل وقال الشيخ موفق الدين بن قدامة في المغني : ظاهر كلام أحمد استحباب الإبراد بها على كل حال قال الأثرم : وهذا على مذهب أبي عبد الله سواء يستحب تعجيلها في الشتاء ، والإبراد بها في الحر ، وهو قول إسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لظاهر قوله : إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ، وهذا عام .

                                                            وقال القاضي : إنما يستحب الإبراد بثلاث شرائط شدة الحر ، وأن يكون في البلدان الحارة ومساجد [ ص: 152 ] الجماعات فأما من صلاها في بيته أو في مسجد بفناء بيته فالأفضل تعجيلها وقال القاضي في الجامع لا فرق بين البلدان الحارة وغيرها ولا بين كون المسجد ينتابه الناس أو لا ، فإن أحمد كان يؤخرها في مسجده ولم يكن بهذه الصفة ، والأخذ بظاهر الخبر أولى انتهى .

                                                            وذهبت طائفة إلى عدم استحباب الإبراد مطلقا وحكاه ابن المنذر عن عمر وابن مسعود وجابر وحكاه ابن بطال عنهم وعن أبي بكر وعلي .

                                                            وحكاه ابن عبد البر عن الليث بن سعد ، والمشهور عنه موافقة الجمهور .

                                                            (الثانية) فاحتج من لم يعتبر في استحباب الإبراد سوى شدة الحر بهذا الحديث وغيره من الأحاديث ، فإنه ليس فيها سوى ذلك واستنبط الشافعي رحمه الله هذه الشروط التي اعتبرها من الحديث وجعله تخصيصا للنص بالمعنى فحكى عنه أنه قال : إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإبراد كان بالمدينة لشدة حر الحجاز ولأنه لم يكن بالمدينة مسجد غير مسجده يومئذ وكان ينتاب من البعد فيتأذون بشدة الحر فأمرهم بالإبراد لما في الوقت من السعة .

                                                            حكاه ابن عبد البر واستدل الترمذي في جامعه بحديث أبي ذر الثابت في الصحيحين أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي : صلى الله عليه وسلم أبرد أبرد أو قال : انتظر انتظر وقال : شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة حتى رأينا فيء التلول وفي رواية للبخاري أن ذلك كان في صفر على خلاف ما ذهب إليه الشافعي وقال : لو كان على ما ذهب إليه لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد انتهى .

                                                            والجواب عما قاله الترمذي أن اجتماعهم في السفر قد يكون أكثر مشقة منه في الحضر ، فإنه يكون كل واحد منهم في خبائه أو مستقرا في ظل شجرة أو صخرة ويؤذيه حر الرمضاء إذا خرج من موضعه وليس هناك ظل يمشون فيه وأيضا فليس هناك خباء كبير يجمعهم فيحتاجون إلى أن يصلوا في الشمس .

                                                            والظاهر أيضا أن أخبيتهم كانت قصيرة لا يتمكنون من القيام فيها ، وقد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر أن يقول ألا صلوا في الرحال

                                                            فلما كان وجود البرد الشديد أو المطر في السفر مرخصا في ترك الجماعة كذلك وجود الحر الشديد في السفر مقتض للإبراد بالظهر وقال [ ص: 153 ] ابن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر .

                                                            وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول ، وهو على العموم لا سبيل يستثنى من ذلك البعض انتهى .

                                                            وقد عرفت أن التخصيص إنما هو بالمعنى ، والصحيح في الأصول أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه لكن قد يقال : لا يتعين أن تكون العلة ما أشار إليه الشافعي من تأذيهم بالحر في طريقهم فقد تكون العلة ما يجدونه من حر الرمضاء في جباههم في حالة السجود ، وقد ثبت في الصحيح عن أنس قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظهائر جلسنا على ثيابنا اتقاء الحر ورواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ سجدنا بدل جلسنا ، وفي سنن أبي داود وغيره كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر وفي حديث أنس في الصحيح ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه .

                                                            فهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم نجد عنهم أنهم شكوا مشقة المسافة ولا بعد الطريق ويمكن أن تكون العلة في ذلك أنه وقت يفوح فيه حر جهنم ولهيبها ، وهو ظاهر قوله : فإن شدة الحر من فيح جهنم .

                                                            وكونها ساعة يفوح فيها لهب جهنم وحرها يقتضي الكف عن الصلاة كما في حديث عمرو بن عبسة ، فإذا اعتدل النهار فأقصر يعني عن الصلاة ، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم .

                                                            (الثالثة) والذين لم يستحبوا الإبراد مطلقا أجابوا عن هذا الحديث بأن معناه صلوها في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله .

                                                            ويبطل هذا قوله : فإن شدة الحر من فيح جهنم ؛ لأن أول وقت الظهر أشد حرا من آخره ، وحديث أبي ذر المتقدم في الفائدة قبلها صريح في أن المراد بالإبراد التأخير إلى وقت البرد وقال الخطابي : ومن تأول الحديث على برد النهار فقد خرج من جملة قول الأئمة وتمسك هؤلاء الذين لم يستحبوا الإبراد مطلقا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت وبحديث خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا .

                                                            والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة فنقدم عليها هذا الحديث لخصوصه ، وعن حديث خباب من أوجه :

                                                            (أحدها) أنه إنما لم يجبهم لما سألوا وترك شكواهم ؛ لأنهم أرادوا أن يؤخروا الصلاة بعد الوقت الذي حده [ ص: 154 ] لهم وأمرهم بالإبراد إليه ويزيدوا على الوقت المرخص لهم فيه ومن المعلوم أن حر الرمضاء الذي يسجد لا يزول إلا بعد خروج الوقت كله ذكر المازري هذا الجواب وقال : إنه الأشبه يعني أشبه الأجوبة .

                                                            (ثانيها) أن هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الدالة على التقديم منسوخة بأحاديث الإبراد ؛ لأنها رويت من حديث أبي هريرة ، والمغيرة بن شعبة ونحوهما ممن تأخر إسلامه بخلاف أحاديث التعجيل كحديث خباب وحديث عبد الله بن مسعود ويدل لهذا ما رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهاجرة فقال لنا : أبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ورواه الطحطاوي بلفظ ، ثم قال : أبردوا وأعله أبو حاتم بأنه روى عن قيس بن أبي حازم عن عمر بن الخطاب من قوله وذكر الخلال عن الميموني أنهم ذاكروا أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل حديث المغيرة بن شعبة فقال أسانيد جياد ، ثم قال خباب يقول : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يشكنا ، والمغيرة كما ترى روى القصتين جميعا قال : وفي رواية غير الميموني وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبراد وقال الأثرم بعد ذكر أحاديث التعجيل ، والإبراد : فأما التي ذكر فيها التعجيل في غير الحر ، فإن الأمر عليها .

                                                            وأما حديث خباب وجابر ، وما كان فيها من شدة الحر ، فإن ذلك عندنا قبل أن يأمر بالإبراد ، وقد جاء بيان ذلك في حديثين أحدهما حديث بيان عن قيس عن المغيرة بن شعبة قال : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فقال لنا : أبردوا فتبين لنا أن الإبراد كان بعد التهجير ، والحديث الآخر أبين من هذا خالد بن دينار أبو خلدة قال سمعت أنسا يقول كان : النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان البرد بكر بالصلاة ، وإذا كان الحر أبرد بالصلاة

                                                            (ثالثها) أن الإبراد رخصة وتقديمه صلى الله عليه وسلم الصلاة كان أخذا بالأشق والأولى .

                                                            وبهذا قال بعض أصحابنا ونص عليه الشافعي في البويطي وصححه أبو علي السنجي لكن الصحيح من مذهبنا أن الإبراد هو الأفضل فلا يمشي عليه هذا الجواب (رابعها) أن معنى قوله : فلم يشكنا لم يحوجنا إلى شكوى بل رخص لنا في الإبراد حكاه للقاضي أبو الفرج المالكي عن ثعلب ويرده أن في بعض طرقه فما أشكانا ، وقال : إذا زالت [ ص: 155 ] الشمس فصلوا روى هذه الزيادة أبو بكر بن المنذر كما ذكره ابن القطان .

                                                            (خامسها) أن الإبراد أفضل وحديث خباب فيه بيان جواز التعجيل دل عليه كلام ابن حزم ، فإنه ذكر استحباب الإبراد ، ثم قال : وإنما لم نحمل هذا الأمر على الوجوب لحديث خباب لكن في هذا نظر ؛ لأن ظاهر حديث خباب المنع من التأخير أو أنه مرجوح بالنسبة إلى التقديم والله أعلم .



                                                            (الرابعة) لفظ الصلاة عام بناء على أن المفرد المعرف بالألف ، واللام للعموم فيتناول سائر الصلوات ، وذلك يقتضي تأخير كل منها في شدة الحر ، وبه قال الجمهور في الظهر كما تقدم وقال به أشهب وحده في صلاة العصر قال تؤخر ربع القامة وقال به أحمد بن حنبل في رواية عنه في صلاة العشاء فرأى تأخيرها في الصيف وتعجيلها في الشتاء وعكس ابن حبيب من المالكية فرأى تأخيرها في الشتاء لطول الليل وتعجيلها في الصيف لقصره ، وهو أظهر في المعنى ولا نعلم أحدا قال بالإبراد في المغرب وكأن ذلك لضيق وقتها ولا في الصبح وكأن ذلك ؛ لأن وقتها أبرد الأوقات مطلقا .

                                                            فلا معنى للإبراد بها وجواب الجمهور عن ترك القول بالإبراد في العصر ، والعشاء أن المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر كما ورد بيانه في بعض طرق الحديث فقال : أبردوا بالظهر رواه البخاري من حديث أبي سعيد وتكون الألف ، واللام في الصلاة للعهد وأيضا فإن أول وقت العصر وأول وقت العشاء لا يكون في الغالب أشد حرا من آخر وقت الظهر ، فإذا فعلت الظهر في آخر وقتها ففعل العصر في أول وقتها ، والعشاء في أول وقتها وهما أقل حرا أولى بذلك وأيضا ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه في خبر الإبراد لا بالعصر ولا بالعشاء بل كان يأتي بكل منهما في أول وقتها صيفا وشتاء ، وأما تأخيره العشاء في بعض الأوقات فهو إما لاجتماع الناس كما ورد بيانه أو لما في تأخيرها من الفضل وليس ذلك لأجل الإبراد ولا فرق فيه بين الصيف ، والشتاء والله أعلم .



                                                            (الخامسة) استدل به على استحباب الإبراد بصلاة الجمعة لدخولها في مسمى الصلاة وأيضا ، فإنها في وقت الظهر وقائمة مقامها ، والعلة المقتضية للإبراد [ ص: 156 ] بالظهر ، وهي شدة الحر موجودة في وقتها ، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي خلدة ، وهو خالد بن دينار قال سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد الحر أبرد بالصلاة ، وإذا اشتد البرد بكر بالصلاة يعني الجمعة ، وهذا أحد الوجهين لأصحابنا .

                                                            والوجه الثاني ، وهو الأصح أنه لا يبرد بها وبه قال سفيان الثوري ومالك وأحمد .

                                                            والجواب عن قوله : فأبردوا بالصلاة أن المراد بها الظهر كما تقدم وعن وجود العلة المقتضية للإبراد ، وهي شدة الحر أنه ليس النظر لمجرد شدة الحر بل لوجود المشقة في شدة الحر ، والمشقة في الجمعة ليست في التعجيل بل في التأخير ، فإن الناس ندبوا للتبكير لها ، وإذا حضروا كانت راحتهم في إيقاع الصلاة لينصرف كل واحد منهم إلى منزله فيستريح من شدة الحر لا في التأخير ، فإنهم يتضررون بطول الاجتماع في شدة الحر فانعكس الحكم ، وعن الحديث الذي أوردناه من صحيح البخاري أنه ليس من نقل الصحابي عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من فهم الراوي ؛ ولهذا قال يعني الجمعة ، ولو كان من تتمة كلام أنس لم يحتج لقوله يعني وإذا لم يكن في المسألة نص وجب مراعاة المعنى وملاحظته ، والمعنى مقتض للتعجيل كما تقدم .

                                                            فهذا هو الجاري على قواعد الشافعي رحمه الله في كونه ليست العلة عنده في الإبراد شدة الحر بل المشقة في شدة الحر ؛ ولهذا شرط في الإبراد أو في شدة الحر كون الصلاة في جماعة وكون المصلين يقصدونها من بعد ولا يجدون كنا يمشون تحته كما تقدم والله أعلم .

                                                            (السادسة) قوله : فأبردوا عن الصلاة يحتمل عن هنا أوجها : أحدها أن يكون بمعنى الباء كما أن الباء تكون بمعنى عن فمن الأول [ ص: 157 ] فيما قيل قوله تعالى وما ينطق عن الهوى أي بالهوى ومن الثاني قوله تعالى فاسأل به خبيرا وتسمى هذه باء المجاوزة . ثانيها أن تكون زائدة أي أبردوا الصلاة يقال : أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار ذكره القاضي عياض وغيره ، وفيه نظر ؛ لأن من جعل عن تأتي زائدة قيد ذلك بأن تزاد للتعويض من أخرى محذوفة ومثلوه بقول الشاعر :

                                                            أتجــــزع إن نفس أتاهـــا حمامهـــا فــهلا التــي عـن بيـن جـنبيك تـدفع

                                                            قال أبو الفتح أراد تدفع عن التي بين جنبيك فحذفت عن من أول الموصول وزيدت بعده .

                                                            (ثالثها) تضمين أبردوا معنى أخروا وحذف مفعوله تقديره أخروا أنفسكم عن الصلاة قال القاضي أبو بكر بن العربي : معنى قوله أبردوا أخروا إلى زمان البرد ولا ينتظم ذلك مع قوله عن ، فإن صورته أخروا عن الصلاة إلا بإضمار وتقديره أخروا أنفسكم عن الصلاة وهو قريب من قول الخطابي : معنى قوله أبردوا عن الصلاة تأخروا عنها مبردين (قلت) أي داخلين في وقت البرد انتهى .

                                                            وهو مثل كلام ابن العربي ألا إنه ضمن أبردوا معنى فعل قاصر لا يحتاج إلى تقدير مفعول وهو تأخروا .

                                                            (السابعة) وقوله في الرواية الثانية أبردوا عن الحر أي أخروا الصلاة عن الحر إلى البرد وقوله في الصلاة يحتمل أن تقديره ذلك في شأن الصلاة ويحتمل أن يكون المفعول المحذوف فعلكم أي أخروا عن الحر فعلكم في الصلاة ويحتمل أن يكون في بمعنى الباء كما في قوله : بصيرون في طعن الأباهر ، والكلى .



                                                            (الثامنة) فيح جهنم وفوحها بالياء ، والواو مع فتح الأول فيهما وبالحاء المهملة سطوع حرها وانتشاره يقال فاحت القدر تفيح وتفوح إذا غلت ، وجهنم من أسماء النار ، وهو غير مصروف للعلمية ، والتأنيث ، واختلف في هذه اللفظة هل هي عربية سميت بذلك لبعد قعرها ومنه ركية جهنام أي بعيدة القعر أو فارسية معربة ، وقيل : هي تعريب كهنام بالعبراني واختلف العلماء في قوله : فإن شدة الحر من فيح جهنم هل هو حقيقة أو مجاز فحمله الجمهور على الحقيقة وقالوا : إن وهج الحر من فيح جهنم ويؤيده حديث أبي هريرة الآتي [ ص: 158 ] اشتكت النار إلى ربها عز وجل .

                                                            وقيل : إنه كلام خرج مخرج التشبيه أي كأنه نار جهنم في الحر فاجتنبوا ضرره قال القاضي عياض : وكلا الوجهين ظاهر وحمله على الحقيقة أولى ، وقال ابن عبد البر : القول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب ، وهو أولى بالصواب انتهى .

                                                            وعلى تقدير حمله على الحقيقة ففيه أن النار مخلوقة الآن موجودة ، وهذا إجماع ممن يعتد به إلا أن المعتزلة قالوا : إنها إنما تخلق يوم القيامة ، والأدلة السمعية متوافرة على خلاف ذلك



                                                            (التاسعة) هذا المؤذن المبهم في حديث أبي ذر هو بلال كما ورد التصريح به في رواية الترمذي في جامعه وأبي عوانة في صحيحه (العاشرة) الفيء بفتح الفاء مهموز الظل الذي يكون بعلم الزوال سمي بذلك لرجوعه من جهة المشرق إلى المغرب وأصل الفيء الرجوع ، والتلول بضم التاء المثناة من فوق جمع تل بفتحها ، وهي الروابي المرتفعة وقال ابن بطال : كل شيء بارز على وجه الأرض من حجر أو نبات أو غيره انتهى .

                                                            وهو خلاف المعروف .

                                                            (الحادية عشر) ظاهر قوله في حديث أبي ذر عند الشيخين أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبرد . أن الأمر بالإبراد راجع إلى الصلاة فقط ؛ لأن الأذان قد وقع وانقضى وفي روايتين أخريين للبخاري فأراد المؤذن أن يؤذن الظهر فقال أبرد ، وذلك يقتضي أن الأمر بالإبراد راجع إلى الأذان أيضا ، وأنه منعه من الأذان في ذلك الوقت وقال البيهقي بعد ذكر الرواية الأولى : وفي هذا كالدلالة على أن الأمر بالإبراد كان بعد التأذين ، وأن الأذان كان في أول الوقت .

                                                            وقال شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي في المهمات كلام الرافعي يفهم أنه لا يستحب الإبراد بالأذان ، وقد نقله ابن الرفعة [ ص: 159 ] في المطلب عن بعضهم (قلت) : وينبغي بناء هذا على أن الأذان مشروع للوقت أو للصلاة ، فإن قلنا للوقت أذن ، وإن قلنا للصلاة فلا ، وقد بنى أصحابنا على هذا الخلاف في الأذان للفائتة فالجديد ورجحه الرافعي أنه لا يؤذن لها ، والقديم ورجحه النووي أنه يؤذن لها ، ونص الإملاء إن رجا اجتماع طائفة يصلون معه أذن وإلا فلا قال أصحابنا : الأذان في الجديد حق الوقت وفي القديم حق الفريضة ، وفي الإملاء حق الجماعة ويمكن الجمع بين الروايتين إما بحمل قوله في الرواية الأولى أذن على معنى أراد الأذان كما فسرته الرواية الثانية ، وإما بحمل الأذان في الرواية الثانية على الإقامة فقوله : فأراد أن يؤذن أي يقيم ويدل لذلك قوله في رواية الترمذي : فأراد أن يقيم فقال : أبرد وقال بعد قوله حتى رأينا فيء التلول ، ثم أقام فصلى .

                                                            وكذا حكى ابن الرفعة في المطلب عن بعضهم أنه حمل تأخير الأذان هنا على الإقامة لكن في رواية أبي عوانة في صحيحه بعد قوله : حتى رأينا فيء التلول ، ثم أمره فأذن وأقام ، وهي دالة على أنه لم يكن أذن أولا أو لم يعتد بأذانه والله أعلم .



                                                            (الثانية عشر) استدل البخاري بقوله في روايته : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر على مشروعية الأذان للمسافر ، وهو مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، والجمهور ، وهو رواية أشهب عن مالك وقال في رواية ابن القاسم : لا أذان على مسافر إنما الأذان على من يجتمع إليه لتأذينه وروي عن طائفة من التابعين أنه يقيم المسافر ولا يؤذن منهم مكحول والحسن البصري والقاسم بن محمد وروي عن علي وعروة والثوري والنخعي إن شاء أذن ، وإن شاء أقام وفي الموطإ عن ابن عمر أنه كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح ، فإنه كان يؤذن لها ويقيم .

                                                            وقال عطاء : إذا كنت في سفر فلم تؤذن ولم تقم فأعد الصلاة وقال مجاهد إذا نسي الإقامة في السفر أعاد قال ابن بطال ، والحجة لهما قوله عليه الصلاة والسلام للرجلين : أذنا وأقيما قالا : وأمره على الوجوب ، والعلماء على خلاف قول عطاء ومجاهد ؛ لأن الإيجاب [ ص: 160 ] يحتاج إلى دليل لا منازع فيه وجمهور العلماء على أنه غير واجب في الحضر فالسفر الذي قصرت فيه الصلاة عن هيئتها أولى بذلك انتهى .



                                                            (الثالثة عشر) قوله : حتى رأينا فيء التلول يدل على زيادة التأخير بالإبراد إذ التلول لا يظهر ظلها إلا بعد تمكن الفيء وطوله بخلاف الأشياء المنبسطة ، فإن ظهور ظلها سريع ، وقد ذكر أصحابنا الشافعية أن الإبراد بالظهر يكون بقدر ما يبقى للحيطان ظل يمشي فيه الساعي للجماعة قالوا : ولا ينبغي أن يؤخر عن النصف الأول من الوقت قال الشافعي رحمه الله في الأم : ولا يبلغ بتأخيرها آخر وقتها فيصليهما جميعا معا ولكن بقدر ما يعلم أنه يصليها متمهلا فينصرف منها قبل آخر وقتها ليكون بين انصرافه منها وبين آخر وقتها فصل .

                                                            وكذا قال الحنابلة وقدر المالكية التأخير بزيادة على ربع القامة إلى نصف الوقت واختلفوا هل ينتهي بالإبراد إلى آخر الوقت أم لا فمنعه أشهب وأجازه ابن عبد الحكم ويدل له قوله في رواية البخاري حتى ساوى الظل التلول وذكر أبو بكر بن العربي أن هذا الحديث حجة لأشهب ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما أخر إلى أن كان للتلول ، والجدران فيء يستظل به ، وذلك في وسط الوقت ، وفيه نظر ؛ لأن في التلول لا يستظل به إلا في آخر الوقت وخلطه الجدران مع هذا لا معنى له ، فإنهم كانوا في السفر ولا جدران هناك .

                                                            وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمارة قال : كانوا يصلون الظهر والظل قامة وعن الحسن البصري إذا زال الفيء عن طول الشيء فذاك حين تصلى الظهر وعن إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين تصلى الظهر إذا كان الظل ثلاثة أذرع وعن أبي مجلز صليت مع ابن عمر الظهر فقست ظلي فوجدته ثلاثة أذرع .




                                                            الخدمات العلمية