الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها، قال الزهراوي : والمعنى: لا تخونوا بغلول الغنائم، وقال الزهراوي ، وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي لبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة -حين [ ص: 169 ] سفر إليهم- إلى حلقه، يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح، أي: فلا تنزلوا، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه، الحديث المشهور. وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئا حتى تيب عليه، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة .

وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلا من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا معناه: أظهروا الإيمان، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقا ألا يفعلوا فعل ذلك المنافق.

وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة ، أنه قال: أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

يشبه أن يمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات. والخيانة: التنقص للشيء باختفاء، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما، مالا كان أو سرا أو غير ذلك، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر. وخيانة الرسول تنقص ما استحفظ، وخيانات الأمانات هي تنقصها وإسقاطها، والأمانة حال للإنسان يؤمن بها على ما استحفظ، فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير. وقيل: المعنى: وتخونوا ذوي أماناتكم، وأظن الفارسي أبا علي حكاه. وأنتم تعلمون يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد.

وقوله تعالى: فتنة يريد محنة واختبارا وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك. وقوله: وأن الله عنده أجر عظيم يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدرا من مكاسب الدنيا.

[ ص: 170 ] وقوله تعالى: وتخونوا قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلا في النهي كأنه قال: "لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم" فمكانه على هذا جزم، ويحتمل أن يكون المعنى: "لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم"، فموضعه على هذا نصب على تقدير: وأن تخونوا أماناتكم، قال الشاعر:


لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم



وقرأ مجاهد ، وأبو عمرو بن العلاء -فيما روي عنه أيضا- "وتخونوا أمانتكم" على إفراد الأمانة.

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله الآية، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له، و يجعل لكم فرقانا معناه: فرقا بين حقكم وباطل من ينازعكم، أي: بالنصرة والتأييد عليهم، والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما، ومنه قوله: يوم الفرقان . وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان هاهنا بالنجاة، وقال السدي ، ومجاهد : معناه: مخرجا ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون، فمن ذلك قول مزرد بن ضرار:


بادر الأفق أن يغيب فلما ...     أظلم الليل لم يجد فرقانا



[ ص: 171 ] وقال الآخر:


ما لك من طول الأسى فرقان ...     بعد قطين رحلوا وبانوا



وقال الآخر:


وكيف أرجي الخلد والموت طالبي ...     ومالي من كأس المنية فرقان



وقوله تعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية، يشبه أن يكون قوله: "وإذ" معطوفا على قوله: "إذ أنتم قليل" ، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها. ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة، وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور. ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد : هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية.

والمكر: المخاتلة والتداهي، تقول: "فلان يمكر بفلان" إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد، ويقال: أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك، فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوؤه، وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال [ ص: 172 ] الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره، لكن إعلانهم لا يسمى مكرا، وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ماذا يدبر فيك قومك؟ قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب: من أعلمك هذا؟ قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون، ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه، فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره، فافترقوا على ذلك، فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب : التف في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي، وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به، فلما قام رأوا عليا فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري. وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه، فجاءهم رجل فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا ، فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار. [ ص: 173 ] ومعنى ليثبتوك ليسجنوك فتثبت، قاله السدي ، وعطاء ، وابن أبي كثير. وقال ابن عباس ، ومجاهد : معناه: ليوثقوك. وقال الطبري : وقال آخرون: المعنى: ليسحروك.

وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني : "ليثبتوك" ، وهذه أيضا تعدية بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ "ليبيتوك" من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم : معنى: ليثبتوك أي: بالجراحة، كما يقال: "أثبتته الجراحة"، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا.

وقوله تعالى: ويمكر الله معناه: يفعل أفعالا منها تعذيب لهم، ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا، وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا: "ويمكر الله" كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير: هذا هو الشتم، فتسمي العقوبة باسم الذنب، وقوله سبحانه: خير الماكرين أي: أقدرهم وأعزهم جانبا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وفي هذه الجهة -أعني القدرة والعزة- يقع التفضيل، لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل: خير وأحب ونحو هذا، إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من أحد.

التالي السابق


الخدمات العلمية